ليست هي المرّة الأولى الّتي تُعاصر فيها بلدان العالم هذا المزيج من مشاعر الخوف والكراهية. فالتّاريخ الإنساني حافلٌ بهذه المشاعر السلبيّة بين الجماعات والشعوب. لكن ذلك كان محدوداً في أماكنه، ومحصّلة لتخلّف اجتماعي وثقافي ذاتي أكثر ممّا هو نتيجة لتأثيراتٍ خارجية. أمّا عالم اليوم فقد "تعولمت" فيه مشاعر الخوف وصيحات الكراهية. فربّما ساهم التطوّر العلمي في وسائل الإعلام وفي التقنيّة المعلوماتيّة أيضاً بتحمّل مسؤوليّة هذه "العولمة السلبيّة". ويبدو العالم وإن اقترب من بعضه البعض إعلاميّاً وخبريّاً، فهو يتباعد ثقافيّاً واجتماعيّاً. عالم العالم لا يعيش الخوف من "الآخر" كإنسان أو مجتمع مختلف في ثقافته أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطّبيعة وكوارثها، ومن فساد استهلاك بشرها. عالم اليوم يخشى من الغدّ بدلاً من أن يكون كلُّ يومٍ جديد مبعثاً لأملٍ جديد في حياةٍ أفضل. فهناك شعوب تعيش الخوف من إرهابٍ ما قد يحدث في أوطانها، وهناك شعوبٌ أخرى تعايش الإرهاب يوميّاً حصيلة احتلال خارجي أو تسلّط داخلي. هناك مجتمعات تخاف من "أشباح"، وأخرى تعيش الناس فيها كالأشباح! لكن الجميع يشتركون في الخوف من المستقبل المجهول القادم. وكلّما ازداد الشعور بالخوف من "الآخر"، ازدادت مشاعر الكراهية لهذا "الآخر"! وحتّى لا يكون اللّوم على العلم وتطوّره التقني فقط، فإنَّ عالم اليوم يعيش تحديداً هذه الحالة نتيجة ما ساد في مطلع هذا القرن الجديد من ظواهر تطرّف ومن أعمال إرهاب شملت جهات الأرض الأربع، ولم تزل فاعلةً في كلٍّ منها، حيث انتعش بعدها التطرّف السياسي والعقائدي في كلّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح " المتطرّفون العالميّون" يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحاتٍ مختلفة.. وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء. ولقد عاشت المنطقة العربية في مطلع هذا القرن حقبةً خضعت الأحداث فيها لمتطرّفين دينيّين وسياسيين تولّوا حكم أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة)، وأكبر قوة إقليمية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، بينما لم تغب سمة التطرّف الديني والسياسي أيضاً عن بعض من رفعوا شعار مواجهة مشاريع التطرّف الأميركي والإسرائيلي. فقد كان العام 2001 هو عام بدء حكم "المحافظين الجدد" في أميركا مع ما حصلت عليه إدارة بوش من دعم التطرّف العقائدي لها بالطابع الديني المسيحي، كما كان عام وصول شارون لرئاسة حكم إسرائيل على قاعدة تطرّف ديني يهودي، مع بروز "القاعدة" ووقوع أحداث الإرهاب في أميركا وغيرها على أيدي جماعات متطرّفة بطابع ديني إسلامي. وقد كتب الكثيرون في المنطقة العربية، خاصّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عن خطط غربية وإسرائيليّة لجعل "الإسلام" هو "العدو الجديد" للغرب، ثمّ خرجت، على الطرف الآخر، كتاباتٌ عديدة في أميركا والغرب مبشّرةً بنظريّة "صراع الحضارات". إذن، أليس من الحماقة في الأفعال أو الردود عليها، أن سارت الأمور في العالم الإسلامي بهذا الاتجاه الذي جرى التحذير منه طوال عقد التسعينات!! فالخطيئة من جانب، لا تبرّر الخطيئة من الجانب الآخر. ومزيج الأخطاء لن يوصل إلى نتائج صحيحة، وعسى أن يدرك المخطّطون والمنفّذون لأساليب الإرهاب في أيِّ مكان، إلى أيِّ منقلبٍ هم ينقلبون!!. وما بين التطرّف الحاكم والتطرّف المعارض، تهدّدت أيضاً وحدة بعض الكيانات العربيّة، ويتهدّد الاستقرار والأمن والاقتصاد والحياة الاجتماعية في أكثر من بلدٍ عربي. لكن يبقى السؤال في المنطقة العربيّة عن مدى جاهزيّة الأطر البديلة فكريّاً وعمليّاً لنهج التطرّف!. فالواقع العربي الرّاهن يعاني من حال التمزّق على المستويات كلّها، والانقسام حاصلٌ أيضاً حول القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها. فشعار الديمقراطيّة يتحوّل نقيضاً لشعار "التحرّر الوطني"، أو بالعكس! والولاء الوطني تحوّل إلى تنكّرٍ للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاختلافات الدينيّة أصبحت خطراً على الوحدة الوطنيّة!. وتخضع الصراعات العربية الدائرة الآن إلى توصيفين يكمّل كلٌّ منهما الآخر: التوصيف الأول الذي يراها كصراعٍ بين قوى إقليمية ودولية فقط. أمّا التوصيف الثاني، فيصوّرها فقط صراعاً داخلياً على الحكم . فإذا كانت هذه التوصيفات تعتمد المواقف السياسية كمعيار، فإنّ ذلك يُسقط عنها السِّمة الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، حيث نجد حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون لطوائف وجنسيات مختلفة إقليمياً ودولياً. هي ليست طبعاً صراعاتٌ بين "خيرٍ وشر" ولا بين "أيديولوجية الكراهية" و"عقائد الحب"، ولا هي أيضاً بين "شرقٍ وغرب".. تماماً كما أنّها ليست بصراعاتٍ طائفية ومذهبية وإثنية. فلا تكبير طبيعة هذه الصراعات يصحّ معها، ولا تصغيرها يحجب حقيقتها. وبعد أكثر من عقدٍ من الزمن على بدء هذا القرن الجديد، نجد أن جماعاتٍ كثيرة ما زالت تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول بالمنطقة، بينها سوريا والعراق ومصر ولبنان، وتخدم في أساليبها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً. إنّ القتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمانٍ ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية. ثمّ تزداد المأساة عمقاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل أو أسباب سياسية في هذا المكان أو ذاك. إنّ قتل النفس البريئة هو جريمةٌ بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءات دينية أو طائفية أو وطنية. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا تحرير الأوطان أيضاً من التدخل الأجنبي أو الجماعات الإرهابية يبرّر قتل الأبرياء. إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على صورة الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمرٌ يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفي الحالتين، المصيبة كبرى. كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يُجمِع الناس عليها، وتحوُّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً. لقد أصبح العنف ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعاتٍ تسعى للتغيير الآن في حكوماتها وأنظمتها بينما تسير أمور هذه المجتمعات من سيءٍ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعاتٍ أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي أوسع. إنّ القوى المعارضة في البلاد العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، وباتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعيٍ منها أو بغير وعي- عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية. *** المؤسف أنّ المنطقة العربية أصبحت أيضاً سوقاً استهلاكية لمشاريع دولية وإقليمية، وحكوماتها المعنيّة بالأزمات "تأكل ممّا لا تزرع أمنياً، وتلبس ممّا لا تصنع سياسياً". فالمشكلة عربياً ليست في كيفيّة فهم الصراعات وأحجامها فقط، بل أيضاً في المقدار المتاح لحرّية الإرادات المحلية! وهناك بلا شك مسؤولية "غربية" وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي. وتظهر هذه الأزمة الفكرية أيضاً في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، من خلال ضعف الانتماءات الوطنية وما ساد بدلاً عنها من "هويّات دينية"، جامعة في الشكل لكنّها طائفية ومذهبية في المضمون والواقع. ولعلّ بروز ظاهرة "التيّار الإسلامي" بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم يكن هناك في المنطقة العربية حالةٌ من "الانحدار القومي" ومن ضعفٍ للهويّة العربية، كحصيلة لطروحات وممارسات خاطئة جرت باسم القومية وباسم العروبة، فشوّهت المضمون ودفعت بالنّاس إلى بدائل أخرى، إضافةً إلى الفراغ الحاصل نتيجة غياب المرجعية العربية الصالحة التي كانت عليها مصر ومؤسساتها الدينية والسياسية قبل أربعة عقود. لذلك، سيبقى إصلاح الفكر الديني والسياسي هو المقدّمة الأولى لبناء مستقبلٍ أفضل متحرّر من إرهاب الدول والجماعات.. *مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن. Sobhi@alhewar.com

أيُّ مستقبلٍ لعالمٍ يقوم على الخوف والإرهاب!

صبحي غندور*

 

 

ليست هي المرّة الأولى الّتي تُعاصر فيها بلدان العالم هذا المزيج من مشاعر الخوف والكراهية. فالتّاريخ الإنساني حافلٌ بهذه المشاعر السلبيّة بين الجماعات والشعوب. لكن ذلك كان محدوداً في أماكنه، ومحصّلة لتخلّف اجتماعي وثقافي ذاتي أكثر ممّا هو نتيجة لتأثيراتٍ خارجية.

أمّا عالم اليوم فقد "تعولمت" فيه مشاعر الخوف وصيحات الكراهية. فربّما ساهم التطوّر العلمي في وسائل الإعلام وفي التقنيّة المعلوماتيّة أيضاً بتحمّل مسؤوليّة هذه "العولمة السلبيّة". ويبدو العالم وإن اقترب من بعضه البعض إعلاميّاً وخبريّاً، فهو يتباعد ثقافيّاً واجتماعيّاً.

عالم العالم لا يعيش الخوف من "الآخر" كإنسان أو مجتمع مختلف في ثقافته أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطّبيعة وكوارثها، ومن فساد استهلاك بشرها.

عالم اليوم يخشى من الغدّ بدلاً من أن يكون كلُّ يومٍ جديد مبعثاً لأملٍ جديد في حياةٍ أفضل. فهناك شعوب تعيش الخوف من إرهابٍ ما قد يحدث في أوطانها، وهناك شعوبٌ أخرى تعايش الإرهاب يوميّاً حصيلة احتلال خارجي أو تسلّط داخلي.

هناك مجتمعات تخاف من "أشباح"، وأخرى تعيش الناس فيها كالأشباح! لكن الجميع يشتركون في الخوف من المستقبل المجهول القادم. وكلّما ازداد الشعور بالخوف من "الآخر"، ازدادت مشاعر الكراهية لهذا "الآخر"!

وحتّى لا يكون اللّوم على العلم وتطوّره التقني فقط، فإنَّ عالم اليوم يعيش تحديداً هذه الحالة نتيجة ما ساد في مطلع هذا القرن الجديد من ظواهر تطرّف ومن أعمال إرهاب شملت جهات الأرض الأربع، ولم تزل فاعلةً في كلٍّ منها، حيث انتعش بعدها التطرّف السياسي والعقائدي في كلّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح " المتطرّفون العالميّون" يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحاتٍ مختلفة.. وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء.

ولقد عاشت المنطقة العربية في مطلع هذا القرن حقبةً خضعت الأحداث فيها لمتطرّفين دينيّين وسياسيين تولّوا حكم أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة)، وأكبر قوة إقليمية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، بينما لم تغب سمة التطرّف الديني والسياسي أيضاً عن بعض من رفعوا شعار مواجهة مشاريع التطرّف الأميركي والإسرائيلي.

فقد كان العام 2001 هو عام بدء حكم "المحافظين الجدد" في أميركا مع ما حصلت عليه إدارة بوش من دعم التطرّف العقائدي لها بالطابع الديني المسيحي، كما كان عام وصول شارون لرئاسة حكم إسرائيل على قاعدة تطرّف ديني يهودي، مع بروز "القاعدة" ووقوع أحداث الإرهاب في أميركا وغيرها على أيدي جماعات متطرّفة بطابع ديني إسلامي.

وقد كتب الكثيرون في المنطقة العربية، خاصّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عن خطط غربية وإسرائيليّة لجعل "الإسلام" هو "العدو الجديد" للغرب، ثمّ خرجت، على الطرف الآخر، كتاباتٌ عديدة في أميركا والغرب مبشّرةً بنظريّة "صراع الحضارات".

إذن، أليس من الحماقة في الأفعال أو الردود عليها، أن سارت الأمور في العالم الإسلامي بهذا الاتجاه الذي جرى التحذير منه طوال عقد التسعينات!! فالخطيئة من جانب، لا تبرّر الخطيئة من الجانب الآخر. ومزيج الأخطاء لن يوصل إلى نتائج صحيحة، وعسى أن يدرك المخطّطون والمنفّذون لأساليب الإرهاب في أيِّ مكان، إلى أيِّ منقلبٍ هم ينقلبون!!.

وما بين التطرّف الحاكم والتطرّف المعارض، تهدّدت أيضاً وحدة بعض الكيانات العربيّة، ويتهدّد الاستقرار والأمن والاقتصاد والحياة الاجتماعية في أكثر من بلدٍ عربي.

لكن يبقى السؤال في المنطقة العربيّة عن مدى جاهزيّة الأطر البديلة فكريّاً وعمليّاً لنهج التطرّف!.  

فالواقع العربي الرّاهن يعاني من حال التمزّق على المستويات كلّها، والانقسام حاصلٌ أيضاً حول القضايا التي لا يجوز أصلاً الفصل بينها. فشعار الديمقراطيّة يتحوّل نقيضاً لشعار "التحرّر الوطني"، أو بالعكس! والولاء الوطني تحوّل إلى تنكّرٍ للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاختلافات الدينيّة أصبحت خطراً على الوحدة الوطنيّة!.

وتخضع الصراعات العربية الدائرة الآن إلى توصيفين يكمّل كلٌّ منهما الآخر: التوصيف الأول الذي يراها كصراعٍ بين قوى إقليمية ودولية فقط. أمّا التوصيف الثاني، فيصوّرها فقط صراعاً داخلياً على الحكم .

فإذا كانت هذه التوصيفات تعتمد المواقف السياسية كمعيار، فإنّ ذلك يُسقط عنها السِّمة الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، حيث نجد حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون لطوائف وجنسيات مختلفة إقليمياً ودولياً.

هي ليست طبعاً صراعاتٌ بين "خيرٍ وشر" ولا بين "أيديولوجية الكراهية" و"عقائد الحب"، ولا هي أيضاً بين "شرقٍ وغرب".. تماماً كما أنّها ليست بصراعاتٍ طائفية ومذهبية وإثنية. فلا تكبير طبيعة هذه الصراعات يصحّ معها، ولا تصغيرها يحجب حقيقتها.

وبعد أكثر من عقدٍ من الزمن على بدء هذا القرن الجديد، نجد أن جماعاتٍ كثيرة ما زالت تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن في عدّة دول بالمنطقة، بينها سوريا والعراق ومصر ولبنان، وتخدم في أساليبها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً.

إنّ القتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمانٍ ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية. ثمّ تزداد المأساة عمقاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل أو أسباب سياسية في هذا المكان أو ذاك.

إنّ قتل النفس البريئة هو جريمةٌ بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءات دينية أو طائفية أو وطنية. فلا تغيير المجتمعات يصحّ بالعنف الدموي، ولا تحرير الأوطان أيضاً من التدخل الأجنبي أو الجماعات الإرهابية يبرّر قتل الأبرياء.

إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على صورة الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمرٌ يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفي الحالتين، المصيبة كبرى.

كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يُجمِع الناس عليها، وتحوُّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.

لقد أصبح العنف ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعاتٍ تسعى للتغيير الآن في حكوماتها وأنظمتها بينما تسير أمور هذه المجتمعات من سيءٍ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعاتٍ أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي أوسع.

إنّ القوى المعارضة في البلاد العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، وباتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعيٍ منها أو بغير وعي- عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية.

***

المؤسف أنّ المنطقة العربية أصبحت أيضاً سوقاً استهلاكية لمشاريع دولية وإقليمية، وحكوماتها المعنيّة بالأزمات "تأكل ممّا لا تزرع أمنياً، وتلبس ممّا لا تصنع سياسياً". فالمشكلة عربياً ليست في كيفيّة فهم الصراعات وأحجامها فقط، بل أيضاً في المقدار المتاح لحرّية الإرادات المحلية!

وهناك بلا شك مسؤولية "غربية" وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء "إسلامية"، لكنْ هذا هو عنصرٌ واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة. ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس هو العامل الفكري/العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم التي يتعارض بعضها مع أصول الدعوة الإسلامية، وحيث ازدهرت الآن ظاهرة فتاوى "جاهلي الدين" في قضايا عديدة، من ضمنها مسألة استخدام العنف ضدّ الأبرياء أو التحريض على القتل والاقتتال الداخلي.

وتظهر هذه الأزمة الفكرية أيضاً في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، من خلال ضعف الانتماءات الوطنية وما ساد بدلاً عنها من "هويّات دينية"، جامعة في الشكل لكنّها طائفية ومذهبية في المضمون والواقع. ولعلّ بروز ظاهرة "التيّار الإسلامي" بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم يكن هناك في المنطقة العربية حالةٌ من "الانحدار القومي" ومن ضعفٍ للهويّة العربية، كحصيلة لطروحات وممارسات خاطئة جرت باسم القومية وباسم العروبة، فشوّهت المضمون ودفعت بالنّاس إلى بدائل أخرى، إضافةً إلى الفراغ الحاصل نتيجة غياب المرجعية العربية الصالحة التي كانت عليها مصر ومؤسساتها الدينية والسياسية قبل أربعة عقود. لذلك، سيبقى إصلاح الفكر الديني والسياسي هو المقدّمة الأولى لبناء مستقبلٍ أفضل متحرّر من إرهاب الدول والجماعات..

 *مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.

Sobhi@alhewar.com

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.