بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي

أطوار خلق الإنسان:

ولعله من الأسباب التي دعتني أن أتحدَّث عن أطوار الإنسان في هذا البحث ما قاله الإمام ابن كثير في تفسيره لآية الخلق في سورة الحج، ما ذكره من أطوار خلق الإنسان أمر كل مكلَّف أن ينظر فيه، والأمر المطلق يقتضى الوجوب إلا لدليلٍ صارف عنه، كما أوضحناه مرارًا، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 5، 6].


يعدُّ خلق الإنسان من آيات الله العظيمة، خاصة إذا علِمنا أن كل طور من هذه الأطوار يعدُّ آية في ذاته، كما أن إخبار الله - سبحانه - عن هذه الأطوار والمراحل في القرآن الكريم يعتبر من الإعجاز العلمي، لا سيما وأن العلم الحديث لم يتوصَّل إلى هذه الأطوار إلا منذ سنوات قليلة، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].


ومن الواضح أنه قبل عملية خلق الإنسان قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه الإنسان مذكورًا كما في قوله - تعالى -: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].


عناصر خلق الإنسان الأول:

1- الماء:

يعبر الماء هو العنصرَ الأول الذي خلق الله منه كل شيء حي سوى الملائكة والجن مما هو حي؛ لأن الملائكة خُلِقوا من النور، والجانُّ خُلِق من النار، قال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].


ويدخل في قوله - تعالى -: ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: وقد خلقه الله - تعالى - من الماء، يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54][1].



2- التراب:

التراب هو العنصر الثاني من عناصر خلق أبي البشر آدم - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، والتراب عنصر أساسي من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم - عليه السلام - إذ من الترابِ النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين، قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [فاطر: 11].


وقال - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [غافر: 67].

وقال - تعالى -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ [الروم: 20].


وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].


هناك تحقيقٌ آخر للعلماء حول خلق الله الناس من تراب، وهو أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجَه، ثم خلقهم منها عن طريق التناسل، فلما كان أصلُهم الأول من ترابٍ، أطلق عليهم أنه خلقهم من ترابٍ؛ لأن الفروع تبع الأصل، وقد توصَّل العلم الحديث إلى أن كل العناصر المكوِّنة للإنسان هي عناصر التراب.


مراحل خلق الإنسان الأول:

1- الطين:

وهذا الطين ناتجٌ من امتزاج عنصرَي الماء والتراب كما وضحنا آنفًا، ولذلك فالطين هو المركَّب الذي يتكوَّن منه خلق جسد الإنسان، قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 6 - 9].


ويصف الله - سبحانه وتعالى - هذا الطين بأنه كان طينًا لازبًا؛ أي: لزج لاصقًا متماسكًا يشدُّ بعضه ببعض، قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11].


ومما هو جديرٌ بالذِّكر أن سببَ اختلاف البشر في صفاتهم وأشكالهم وأخلاقهم يرجع إلى المادة التي خلق الله منها آدم؛ حيث جمعها من جميع الأرض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدرِ الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن، وبين ذلك والخبيث والطيِّب، وبين ذلك))[2].


2- الحمأ المسنون:

ترك الله - تعالى - هذا الطين بعد أن مزج عنصريه حتى صار حمأً مسنونًا، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، والحمأ هو الطِّين الأسود المتغيِّر، كما عليه أقوال المفسرين، أما المسنون ففيه خلاف بين المفسِّرين، قيل: المصوَّر من سُنَّة الوجه وهى صورته، ومنه قول ذي الرمة:

تُرِيكَ سُنَّةَ وَجهٍ غَيرِ مُقرِفَةٍ

مَلْسَاءَ لَيسَ بِهَا خَالٌ وَلا نَدَبُ


وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه لما سأله نافعُ بن الأزرق عن معنى المسنون، وأجابه بأن معناه المصوَّر، قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس: نعم، أما سمعت قول حمزةَ بنِ عبدالمطلب - رضى الله عنه - وهو يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

أغرٌّ كأنَّ البدرَ سنةَ وجهِه

جلا الغيمُ عنه ضوءَه فتبدَّدا


وقيل: المسنون المصبوب المفرغ؛ أي: أفرغ صورة الإنسان كما تفرغ الصور من الجوهر في أمثلتها.

وقيل المسنون في رواية لابن عباس ومجاهد والضحاك: إنه المنتن، وقال ابن كثير: المسنون الأملس، كما قال الشاعر:

ثم خاصرتُها إلى القبَّةِ الخضراء

تمشي في مرمرٍ مَسنونِ


ويرجِّح الشنقيطي الرأي الأول بدليل قوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26][3]؛ أي بعد أن مزَج الخالق - تبارك وتعالى - عنصرَي التراب والماء صار المزيج طينًا لازبًا لاصقًا، ثم بعد ذلك صار هذا الطين حمأ أسودًا مسنونًا مصورًا.

3- مرحلة كونه صلصالاً:

بعد أن صار الطين حمأً مسنونًا في صورة آدم صار صلصالاً كالفخار، قال - تعالى -: ﴿ خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ﴾ [الرحمن: 14، 15]، والصلصال هو: الطين اليابس الذي له صلصلة؛ أي يصوت من يُبْسه إذا ضربه شيء، ما دام لم تمسه النار، فإذا مسَّته النار فهو حينئذٍ فخَّار، وهذا قول أكثر المفسرين.


وهذا الصلصال يشبه الفخار إلا أنه ليس بالفخَّار؛ لأن الله لم يُدخِل آدم النار، حتى يكون فخارًا، قال - تعالى -: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14].

والحاصل أن الله - سبحانه وتعالى - لما مزَج عنصرَي التراب والماء صار طينًا، فلمَّا أنتن الطينُ صار حمأً مسنونًا مصورًَّا على هيئته، فلمَّا يبِس صار صلصالاً، وإلى هذه المرحلة لم يبدأ آدم في الحياة.


أما بخصوص المدة الزمنية التي بينَ مرحلة الطين والحمأ المسنون والصلصال، لم يُحدِّدها الله - سبحانه - في القرآن الكريم، وكذلك لم يرِدْ بشأنها حديث نبوي صحيح يُستَدلُّ به، ومن الأحاديث التي تُبيِّن هذه المرحلة ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حمأً مسنونًا خلقه وصوَّره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخَّار، قال: فكان إبليس يمرُّ به فيقول له: لقد خُلِقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطَس، فلقَّاه الله حمد ربه، فقال الله: يرحمك ربك...))[4].



4- نفخ الروح:

بعد أن سوَّى الله - تعالى - الإنسان الأول وصوَّره، ثم صار صلصالاً؛ أي يبِس الطين بعد تصويره دبَّت الروح في جسد آدم - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71، 72].



أضاف - سبحانه - الروح إلى ذاته، للإشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا هو - تعالى - وأن مَرَدَّ كُنهِها وكيفيه خذا النفخ، مما استأثر - سبحانه - به، ولا سبيل لأحد إلى معرفته، كما قال - تعالى -: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85][5].


وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - ملائكتَه قبل خلق آدمَ أنَّ عليهم أن يسجدوا لهذا المخلوق بعد أن تدبَّ الروح في جسده، قال - تعالى -: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71، 72]، هذه الآية تدلُّ على أنه - تعالى - لما نفَخ في آدم الروح وجَب على الملائكة أن يسجدوا له؛ لأن الفاء تفيد التعقيب وتمنع التراخي.


المستفاد تربويًّا من دراسة أطوار خلق الإنسان:

  1. أن هذا النسان الذي بدأ اللهُ - تعالى - خلقه من طين وماء مَهِين، كرَّمه - سبحانه وتعالى - حيث جعل الملائكة العابدون الطائعون النورانيون الذين في طاعة دائمة لا يعصون الله ما أمرهم - يسجدون له سجود طاعه لله لا سجود عبادة لآدم، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].

    وكذلك أخرج من رحمتِه مَن رفض السجودَ له، لذلك نهى العلماء أن يهان الإنسان، وأن يُضرَب على وجهه حتى ولو كان لأجل التربية وتقويم السلوك، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].


  2. خلق الله - تعالى - في عده أطوار؛ حيث أنشأه - سبحانه - بالتدرج طَورًا بعد طَور حتى صار في أحسنِ تقويمٍ، وهو - جلَّ شأنه - قادر على أن يقول له كن، ولكنه - سبحانه وتعالى - اختار لنفسه سنة الإنشاء المتدرج، وهذه هي سنة الله - تعالى - في خلقه، ولذلك علينا أن نأخذ هذا التدرج بعين الاعتبار في تربيه الإنسان، وأن عملية التربية لا تأتي دفعة واحدة.


  3. كانت قبضة التراب التي خُلِق منها آدم من جميع الأرض، لذلك خرجت ذريَّته متفرعة متنوعة مختلفة، منها الأسود والأبيض، والطويل والقصير، والصالح والطالح، وعلى هذا فإن هناك فروقًا فردية بين البشر جماعاتٍ وأفرادًا، وعلى المربِّين أن يُنوِّعوا ويُغيِّروا من أساليبهم وطرقهم في التربية على حسب الحاجة.


  4. الطاعة المطلقة لله - سبحانه وتعالى - والاستسلام والانقياد لأوامره - سبحانه وتعالى - وأن مَن سوَّلت له نفسه الاعتراضَ وعدم المبادرة، فهو ملعونٌ مطرود من رحمتِه - جل وعلا.


  5. خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، والميعاد في ذلك هو الإيمان والعمل الصالح.


  6. يتكوَّن الإنسان من جزءينِ أساسيين جزء ملموس وجزء محسوس، وهما الجسد والروح، ولا بد أن يتم إشباع الجزءين، فكل منهما يؤثِّر ويتأثر بالآخر.


ويستفاد تربويًّا من دراسة أطوار الجنين في:

  • تتابُع هذه الأطوار طَورًا بعد طَور، يشهد بوجود الله - سبحانه وتعالى - وبيان عظمته - جل شأنه - وبديع صنعه.
  • كما أن نشأه هذه الأطوار وتتابعها بهذا النظام يدل على أن مقصود مدبر، ولا يمكن أن يكون مصادفة.
  • الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - والسير على نهج القرآن، والتسليم والانقياد الكامل لله - سبحانه وتعالى.
  • ذكر القرآن الكريم لهذه المراحل والأطوار بهذا التتابع، بعكس اهتمام القرآن الكريم بالإنسان عامَّة، وبالطفل خاصَّة.



أطوار الإنسان في القرآن الكريم:

إذا نظرنا وتدبَّرنا ما ورد في القرآن الكريم عن الإنسان نظرةَ تحليلٍ وتقسيم لأطواره، سنجد أن الله - سبحانه وتعالى - لم يضَعْ حدودًا فاصلة بين أطوار ومراحل الإنسان، إلا أنني أجتهدُ في هذه الدراسة معتمدًا على الله مستدلاًّ بالآيات والأسماء التي وردت متعلِّقة بهذه الأطوار وأقوال العلماء فيها، والله ولي التوفيق.


أولاً: مرحلة المهد:

ورد لفظ المهد في المعجم الوجيز بمعنى السريرِ يُهيَّأ للصبى، ويُوطَّأ لينامَ فيه، ومهَّد بمعنى "وطَّأ وسهل"، المهد: اسم للمضجع الذي يهيَّأ للصبي في رضاعِه، وهو في مهده الأصل مصدر مهده إذا بسطه وسواه[11].


ويقول ابن كثير في تفسيره لقوله - تعالى -: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29]؛ أي: كيف تُحِيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بيت مخض وزبده؟[12].


من خلال ذلك نرى أن مرحلة المهد تمتدُّ منذ الولادة حتى الفطام، أو هي مدة الرضاعة؛ حيث يُبسَط ويُهيَّأ للصبي فيها حتى يشد عوده ويستطيع الحركة والأكل مما على الأرض.


ثانيًا: مرحلة الصبا: من المهد إلى ما قبل البلوغ:

ورد لفظ الصبا في المعجم الوجيز بمعنى الصغر والحداثة، وهو من "صبا فلان صبوة"، بمعنى مال إلى اللهو، وإليه حنَّ وتشوَّق، أما الاسم الصَّبي فهو الصغير دون الغلام، أو مَن لم يُفطَم بعدُ، والصَّبية والصِّبيان هو الناشئ الذي يُدرَّب على المهنة بالعمل والمحاكاة، قال - تعالى -: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 12].


قال صاحب الوسيط في تفسيره لهذه الآية:

يعني صبيًّا لم يبلُغِ الحُلم، وقد أورد القرطبي قولاً لابن عباس في تفسيره لهذه الآية: "مَن قرأ القرآن قبل أن يحتَلِم فهو ممَّن أُوتِي الحكم صبيًّا".

- وقال الطبري: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.

- وعند الفقهاء: الصبي ما دون الحُلم، لحديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((رُفِع القلم عن ثلاثٍ، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقِلَ))[13].



ثالثًا: مرحلة الفُتوَّة:

- تمتدُّ هذه المرحلة من الاحتلام حتى مرحلة الكهولة.

- وقد جاء في الوجيز: "الشباب: بين المراهقة والرجولة، والفتى: الشابُّ أول شبابه بين المراهقة والرجولة - والخادم.

- وفي القرآن الكريم: ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ [الكهف: 62].

- وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].

إذا أخذت أقوال المفسرين في الفتية ستجد أنها مرحلة الشباب، أو ما بعد الأحتلام، فقد قال ابن كثير: "الفتية جمع فتى جمع تكسير، وهو من جموع الفتية، ويدل لفظ الفتية على أنهم شباب لا شيب.

وفى تفسير الجلالين: "الفتية جمع فتى وهو الشاب الكامل".




رابعًا: الكهولة:

- يصير الفتى كهلاً عندما تكتملُ قوَّته البدنية والعقلية؛ أي: هي مرحلة الاكتمال والرشد.

- وفي المعجم: "الكهل: مَن جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين".

- قال - تعالى -: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 46].

- يقول الإمام القرطبي: "الكهل: بين حال الغلومة وحال الشيخوخة".

- وفي تفسير البغوي: "العرب تمدحُ الكهولة؛ لأنها الحالة الوسطى في استحكام السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة".

- وقد أورد البغوي في تفسيرِه لهذه الآية قولاً لابن عباس، قال: "أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة، فمكث في رسالتِه ثلاثين شهرًا ثم رفعه الله إليه".


خامسًا: الشيخوخة:

تمتدُّ هذه المرحلة ما بين الكهولة والهرم.

وفي الوجيز: شاخ الإنسان شيخًا وشيخوخة: أسن، والشيخ: مَن أدرك الشيخوخة، وهي غالبًا عند الخمسين، وفوق الكهل ودون الهَرِم.

بعد الانتهاء من هذه مرحلة الكهولة يدخل الإنسان في مرحلة جديدة من النمو، ومن الملاحظ أن الإنسان في هذه المرحلة يضعُفُ عن القيام بما كان يقوم في المرحلة السابقة، ويستمرُّ الضعفُ حتى يصل إلى الوفاة، وهذه من حكمة الله في خلقه أن كلَّ شيء إذا تم يبدأ في الانتقاص من حيث بدأ، يقول الله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [غافر: 67].

وقال أيضًا: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ [الأحقاف: 15]؛ أي إن هذه المرحلة تبدأ بعد الأربعين.


سادسًا: الهرم:

وقد ورد في الوجيز: هرم الرجل هرمًا؛ أي: بلغ أقصى الكبر وضعف، فهو هرم.

يقول الإمام الشنقيطي في أضواء البيان:

- قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15، 16]، يُبيِّن - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنهم بعد أن أنشأهم خلقًا آخر فأخرج الواحد منهم من بطنِ أُمه صغيرًا، ثم يكون محتلمًا، ثم يكون شابًّا، ثم يكون كهلاً، ثم يكون شيخًا، ثم هرمًا، أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عُمِّر منهم ومَن لم يُعَمَّر.

- ويقول أيضًا الإمام ابن كثير: قال العوفي عن ابن عبَّاس: ﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ [المؤمنون: 14]؛ يعني: ننقله من حال إلى حال؛ أي: خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا".

- ومن الجدير بالذكر أنه ليس هناك حدود زمنية فاصلة بين هذه المرحلة؛ لأن هناك فروقًا وظروفًا ومؤثرات قد تختلف من فرد لآخر، ومن بيئة إلى أخرى، كل حسب ما يسره الله له.




________________________________________

المراجع:

[1] الموسوعة القرآنية المتخصصة، ص 780، أ. د/ عبدالحي الفرماوي.

[2] أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[3] ارجع إلى: أضواء البيان، وتفسير القرآن العظيم، وفتح القدير، في تفسير الحجر: 26.

[4] رواه البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة.

[5] الوسيط: ج 12، ص 181.

[6] التفسير التربوي ج 3: ص 145.

[7] علم أطوار الإنسان: ص 100.

[8] البخاري: بدء الخلق، ومسلم: القدر.

[9] الكشاف ج 3، ص 178.

[10] في ظلال القرآن: ج 5، ص 182.

[11] التفسير الوسيط ج 9 ص 34.

[12] البداية والنهاية.

[13] رواه أحمد، وأصحاب السنة، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وحسَّنه الترمذي.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.