في 18 شباط/فبراير’2014 مات أنسي الحاج. خرج الشاعر من صمته الإختياري الى الصمت الإجباري. نام على سرير صنعه من كلماته، ليجد نفسه مغطى بكلمات الآخرين.

أنسي الحاج: اللبناني الأخير

الياس خوري

 

 

في 18 شباط/فبراير’2014 مات أنسي الحاج. خرج الشاعر من صمته الإختياري الى الصمت الإجباري. نام على سرير صنعه من كلماته، ليجد نفسه مغطى بكلمات الآخرين.

رحلة الشاعر الأخيرة هي رحلته في ذاكرة الشعر، وهي رحلة أكثر متعة وصعوبة وشقاء من رحلته الأولى في دروب الكلمات. إنها رحلة الشعر الذي يصير كتابا متعدد الصوت، ومدخلا الى الحوار بين الأموات والأحياء.

لم أفاجأ بالكمّ الكبير من الرثاء الذي احتل جميع الصحف اللبنانية، فالثقافة اللبنانية اكتشفت انها، بغياب أنسي الحاج، تودّع اللبناني الأخير. 

كنت أعتقد أن صفة اللبناني الأخير تليق بسعيد عقل، لكن الأفخاخ السياسية والجمالية التي نصبها شاعر ‘رندلى’ لنفسه، جعلته يخسر الرهان أمام أنسي الحاج. فالحاج، رغم تقلبات الزمن وتقلباته في الزمن، حافظ على صورة النقاء ‘الجبرانية’ التي أتقن صوغها. كافر’ومؤمن، ساخط ومستسلم، ثائر ومحافظ، نبي بلا نبوة، ونبوة بلا إله، وإله يتخلى عن التائبين!

هذا المزيج المدهش من التناقضات في لغة جارحة وحادة ومشفّرة، هو مناخ بيروت الستينات ومزاجها المتقلّب. مدينة الحداثة والتقليد، الثورة والطوائف، الصورة المشتهاة واشتهاء الصورة. 

صورة هذه المدينة التي خرج من رحمها أنسي الحاج هي ابنة يتنازع أبوتها ثلاثة:

الرحابنة وفيروز، بالبعد الملائكي، الذي يصنع من الوهم معجزته، وجريدة ‘النهار’ بدينامية حداثوية جمعت علمانية أنطون سعادة ومبدئيته الفجة الى براغماتية كميل شمعون وتقلباته وطائفيته المستترة حينا والمعلنة حينا آخر، ومجلة ‘شعر’ التي قادها الشاعر يوسف الخال، الذي كان يشبه القسيسين في دعوتهم ومكرهم وزعرناتهم. شارل مالك في ضفة ورينيه حبشي في الضفة الثانية، أكوينية متأمركة تخوض معركتها الدون كيشوتية ضد الشيوعية وشخصانية فرنسية جاءت لتقنعنا بأن’ما هو بين التأمل والفلسفة يستطيع ان يكون فلسفة لزمننا.

على هذه الجدران الثلاثة استندت حكاية أنسي الحاج، أشرق الشاعر بكلماته المدهشة التي كان يلتمع فيها النزق والرفض، وتصنع اللامتوقع في المتوقع. فكانت مجموعاته الشعرية الأولى الثلاث وكأنها صرخة تخلخل ولا تهدم، تتهمش في المتن، وتسعى بنبرتها البرّية الى تدجين شطحات الخيال.

كان شعره ضد الشعر، أو لنقل انه كان الوجه الآخر لغنائية هي عكس الغنائية السائدة. لذا كان لا بد من فيروز. أنسي الحاج، في ‘ملحق النهار’ الأول، أطلق عبادة فيروز، كي يكون خلاص وسط غابة اليأس التي دخل اليها. وعبادة فيروز ليست طقسا يليق بشاعرة الصوت فقط، بل انحناء لرومانسية الرحابنة الممزوجة بسريالية جورج شحادة ولغة سعيد عقل الملوكية.

كنا نقرأه بعيوننا اليسارية، فيلمع شعره على ضفاف المستحيل، ونتابع تجربته في ‘النهار’ فنعجب من كونه في متن المكان الذي نجح غسان تويني في جعله التجسيد الأكثر رونقاً للنظام اللبناني. أثار هذا التناقض الذي وضع فيه الشاعر نفسه اسئلتنا، لنكتشف ان هذا التناقض هو جوهر تمرده، وانه ما كان ليكون على الهامش لو لم يكن المتن قويا ومتماسكا ويحتاج الى هامش يتحداه من دون ان يدعو الى تحطيمه.

لا اريد ان انتقص من تجربة هذا الشاعر الكبير، لكنني الخص، وفي كل تلخيص شيء من انتقاص. كما لا اريد ان انسى عوالمه الداخلية المكتظة بأشباح الليل وكائناته، وهي العوالم التي صنعت شعره من نثار الخوف، ورمت بطيشه في هاوية الحكمة، وأخذته بعد ذلك الى استراحة ‘نشيد الأناشيد’ ودروب ‘الخواتم’ المعبّدة بفلذات الشعر الذي يولد قبل القصيدة وبعدها.

لكنني لا استطيع ان لا أراه في مراحله الأخيرة حين تهاوى كل شيء. مجلة ‘شعر’ صارت في الماضي ومن الماضي. الصوت الفيروزي الملائكي لم يعد مصدر ايحاء وجودي بعد موت عاصي الرحباني. و’النهار’ جريدته وجريدة والده من قبله، لم تعد ‘نهار’ الأمس، بل دخلت في ليل الحرب الأهلية التي حطمت الوطن التي كانت صورته، ودخلت في مرحلة من اللاتوازن دفعت غسان تويني الى محاولة ضخ دماء جديدة اليها، قبل ان تتلاشى وتصير كغيرها من صحف لبنان، خارج المعادلة الاعلامية العربية في زمن النفط والغاز.

الغريب ان كل كلمات الرثاء التي غطت جسد الشاعر لم تتوقف عند طرده من جريدة ‘النهار’ عام 2003. الملف الممتاز الذي اعده الشاعرالصديق عقل العويط في ‘ملحق النهار’ لم يتوقف عند تلك اللحظة التي كان عقل والى جانبه ثلاثة فقط من العاملين في ‘النهار’، شهودها. كيف وجد انسي الحاج نفسه وكيف شرب من الكأس التي شربها قبله كتّاب ‘النهار’: عصام محفوظ وشوقي ابي شقرا، اللذين سيلتحق بهما آخرون.

والأغرب هو رثاء مطران بيروت الماروني للراحل، الذي صيغ وكأن انسي الحاج لا يزال في ‘النهار’ وكأن صراعه مع الابن الشهيد، لم يقد الى القطيعة الكاملة مع الأب. اما كلمة ادمون صعب في ‘الأخبار’، فأتت من سياق لا علاقة له بالسياق.

كانت ‘النهار’ آخر قلعة تتهاوى، وكان تهاوي الصورة نذيرا بتهاوي الأصل، ففقد اللبناني الأخير مرآته وبيته، وتشرد على رصيف الكلمات.

عندما لم تعد ‘النهار’ بيته، صار هذا اللبناني الأخير بلا وطن. ولم تكن سنواته الأخيرة في ‘الأخبار’ الا محاولة بقاء ورتق لفتوق الزمن، لأن الصحافي في لبنان لا يملك نقابة او حقوقا او مرتبا تقاعديا.

نتحدث عن الشاعر لأن الشعر هو الأبقى، ولأن الكلام عن الصحافي يثير شجون بلاد فقدت صحافتها حين فقدت قدرتها على تجاوز تناقضات المجتمع اللبناني الذاهب من انهيار الى انهيار.

عندما صدرت ‘لن’، عام 1960 كانت صرخة تمرد تقول ان لبنان يبحث عن ابطاله الجدد، وامس حين مات أنسي الحاج ولم نعثر على ‘ينابيع الرسولة’، أحسسنا ان ‘لن’ تصلح اليوم ايضا، ولكن كصرخة استغاثة. 

 

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.