رأي

حراك الضمان الاجتماعي: فرص الاستمرارية والانحسار

إسراء عرفات


(تأتي هذه الورقة ضمن إنتاج المشاركين في برنامج تعزيز المشاركة السياسية للشباب الفلسطيني الذي ينفذه مركز مسارات بالشراكة مع مؤسسة آكشن إيد - فلسطين).


مقدمة

منذ منتصف تشرين الأول 2018، تشهد محافظات الضفة الغربية حالة حراك مطلبي احتجاجي متواصل ضدّ قانون الضمان الاجتماعي، الذي كان من المفروض أن يبدأ تطبيقه رسميًا في تشرين الثاني 2018، بعدما شهد موجة احتجاجات سابقة عليه في العام 2016، أدت إلى تعديل 95% من بنوده التي اختُلفَ عليها في حينه، قبل أن يقرّ بصورة نهائية من قبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.[1]

شهد الحراك لأكثر ما يزيد عن 90 يومًا حالة من الزخم والمشاركة الشعبية الواسعة، وتنوّعت أساليبه الاحتجاجية، واختلفت ردود أفعال الفاعلين السياسيين على الساحة الفلسطينية تجاهه، وأحاطت به بعض العوامل الذاتية والموضوعية التي ساهمت في دعم استمراريته طوال هذه الفترة، والتي يُمكن في حال تغيّرها أن تزيد من فرص انحساره، وذلك إذا لم يتمكّن الحراك من تطويعها وتكييفها لخلق تصعيد شعبي يضغط به على الحكومة حتى تحقيق أهدافه كافة.


حراك الضمان الاجتماعي: الأبعاد والتداعيات

أثار إعلان الحكومة طرح قانون الضمان الاجتماعي بصيغته المعدَّلة الجديدة في بداية تشرين الأول 2018 اهتمام الشارع الفلسطيني[2]، إذ شهدت منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة مشاركة الآلاف من مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني في موجة انتقادات علنية مفتوحة طالت القانون والعديد من بنوده التي وجد فيها المنتقدون الكثير من الفجوات والثغرات التي تهضم جزءًا من حقّ العامل في الوقت الحالي، وحين تقاعده ولحظة وفاته.[3]

وتزامنًا مع حالة الانتقاد الواسعة التي طالت القانون، برز على الساحة الفلسطينية حراك شعبي واسع تكوّن من جهات عدة تعترض عليه إما بشكل جزئي أو كلي، وتنقسم مطالبها تجاهه بين المطالبة بتعديل بعض بنوده، أو المطالبة بإلغائه، أو جعله اختياريًا، ويُمكن تصنيف مكونات هذا الحراك من ناحية طبيعة مطالبها كالآتي:


جهات تُطالب بإجراء تعديلات جذرية على القانون وتأجيل تنفيذه:

من أبرز هذه الجهات الحملة الوطنية للضمان الاجتماعي التي لم تُعارض فكرة القانون بالكلية، لكنّها طالبت بإجراء تعديلات عديدة على البنود التي رأت فيها مسًّا بحقوق العمال والموظفين.[4]


ومن هذه الجهات الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين الذي هدد بالانسحاب من مجلس إدارة الضمان الاجتماعي إذا لم يتم الاستجابة لمطالب الحركة العمالية التي يقودها والمتعلّقة بتعديل عدة بنود من القانون[5]، وقد استقال أحد أعضائه من مجلس الإدارة لاحقًا على خلفية تعيين ماجد الحلو لمؤسسة الضمان.[6]


ومن الجهات المطالبة بالتعديل أيضًا النقابات والاتحادات المهنية والقطاعية التي طالب مجلسها التنسيقي بإرجاء إلزامية تنفيذ القانون لمدة 6 أشهر، وتعديل 27 بندًا كشرط للقبول به، والذي علّق عضويته في مجلس الإدارة حتى تستجيب الحكومة لمطالبه. وكذلك جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين التي سحبت مندوبها في مؤسسة الضمان رفضًا لتنفيذ القانون بصيغته الحالية.[7]


جهات تُطالب بإسقاط القانون:

من أبرز هذه الجهات الحراك الفلسطيني الموحّد لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي بالتحالف مع النقابات العمالية الحرة، حيث أعلن مجموعة من الحقوقيين والصحفيين وعدد من شركات القطاع الخاص، بتاريخ 6/10/2018، عن انطلاق حراك احتجاجي شعبي ضدّ قانون الضمان الاجتماعي بعنوان "الحراك الفلسطيني لقانون ضمان اجتماعي عادل".[8] وأُعلن عن أولى فعاليات الحراك عبر صفحة على الفيسبوك حملت عنوان الحراك.


دعا الحراك في أولى فعالياته إلى اعتصام شعبي واسع وسط مدينة رام الله بتاريخ 15/10/2018، وقد لاقت هذه الدعوة استجابة جماهيرية واسعة وشهد الاعتصام مشاركة شعبية لافتة.[9] وتوالت فعاليات الحراك وشملت مختلف محافظات الضفة الغربية، وفي بداياته رفع الحراك مطالبه عبر حوار قادته الكتل البرلمانية ولعبت فيه دور الوسيط بين الحراك والحكومة، وتضمنت مطالبه آنذاك تجميد العمل بالقانون لفترة زمنية يتمّ خلالها فتح باب النقاش والجدل حوله تمهيدًا لتعديله وإعادة طرحه بعد نفي صفة الإلزامية عنه وجعل العمل به بشكل طوعي واختياري.[10]


وفي ضوء تعنّت الحكومة وردود فعلها الضعيفة على المطالب، رفع الحراك سقف مطالبه وأعلن بتاريخ 19/11/2018 عن البدء بتشكيل "الحراك الفلسطيني الموّحد لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي"، بحيث يتكوّن هذا الحراك من تفريعات تمثيلية في كلّ من محافظات الشمال والوسط والجنوب، بالإضافة إلى ممثلين عن المحافظات والنقابات العمالية الحرة ومؤسسات المجتمع المدني وخبراء اقتصاديين وقانونيين.[11] وأوضح الحراك أنّ مطلبه إلغاء كامل لقانون الضمان.[12]


أوضح القائمون على الحراك أنّ اعتراضاتهم على القانون هي في مجملها اعتراضات مبدئية، تتعلّق بفقدان الثقة في المنظومتين الاقتصادية والسياسية التي من المفروض أن "تضمنه".[13] وطالبوا الحكومة بالاستجابة لمطالب الحراك بإلغاء قانون الضمان، وإعادة الاعتبار لبعض البنود غير المعمول بها في قانون العمل التي تشكّل بديلًا معقولًا لقانون الضمان، من حيث أنّها تضمن للعامل وربّ العمل حقّهما دون انتقاص.[14]

ردود الأفعال الفلسطينية على الحراك


موقف الفصائل البارزة

تباينت مواقف الفصائل الفلسطينية من الحراك ومكوناته المختلفة، لكنها جاءت في معظمها منحازة لمطلب التعديل والإرجاء دون الإلغاء والإسقاط، فقد عقد المجلس الثوري لحركة فتح اجتماعًا طارئًا بالتزامن مع انطلاق فعاليات الحراك، وأصدر بيانًا تضمن توصيات عدة للحكومة طالب فيها بتأجيل تطبيق القانون لمدة 6 أشهر، يكون خلالها الانضمام إلى القانون اختيارًا إلى حين إجراء التعديلات اللازمة عليه، مؤكّدًا أنّ ذلك وحده من شأنه أن يفتح الطريق لحوار شامل بين الحكومة وكافة الشرائح والأطراف المعنية.[15]


أما حزب الشعب الفلسطيني، فقد دعا أمينه العام بسام صالحي - بصفته ممثل الكتل البرلمانية التي قادت الحوار مع مختلف الأطراف المعترضة على القانون - جميع الجهات المعترضة للجلوس مع الحكومة على طاولة الحوار، مبينًا أنّ ذلك هو الحلّ الوحيد الذي يُمكن عبره الخروج بصيغة وحدوية للجميع تضمن إيجابيات القانون وتُعالج كافة النواقص والمخاوف الموجودة عند الناس تجاه.[16]


ولاحقًا، اقترح الصالحي على الرئيس عباس تأجيل تطبيق القانون "حتى تتوفر فرصة بناء توافق مجتمعي عليه، سواء من خلال المجلس التشريعي القادم، أو من خلال أية صيغة أخرى تغطي أوسع مشاركة في بحث وتعديل القانون".[17]


بدورها، أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أهمية قانون الضمان الاجتماعي باعتباره شكلًا من أشكال الحماية الاجتماعية تحصّل عليها العمال والعاملات بعد نضال طويل، مبينة وقوفها مع حرية التعبير والاعتراض، ومبدية تخوفها من أن تتحوّل مظاهر النقد المتنوعة للقانون إلى وسيلة مغرضة لهدمه وتقويضه وتبديد المنجزات التي ينطوي عليها.[18]


أما الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين فقد عبّرت عن وقوفها إلى جانب حق الشعب في التعبير والاعتراض باستخدام الوسائل السلمية المشروعة، معربة عن إدانتها للجوء الحكومة إلى استخدام الأجهزة الأمنية في قمع وصول المواطنين إلى مواقع الاعتصام والتضييق على تنقلاتهم بين مختلف المحافظات الفلسطينية.[19]


ودعمت حركة حماس مطلب تجميد القانون، وأكّدت رفضها الشديد للقانون التي وجدت فيه إجحافًا واضحًا بحقّ الفئات الكادحة، وحقوق الأسرى والجرحى، وعوائل الشهداء، وطالبت الحكومة بالاستجابة الفورية لمطالب الجماهير بتجميده والالتزام بالآليات القانونية السليمة في إقرار القوانين.[20]


وكان حزب التحرير، الذي يتمتع بقاعدة شعبية وازنة في محافظات الجنوب، قد أعلن وقوفه إلى جانب المكونات المطالبة بإسقاط القانون، واستنكر ما وصفه محاولات السلطة للالتفاف على مطالب الشارع وتطلعاته[21]، مؤكدًا وقوف الحزب في وجه سياسات السلطة وإلى جانب كلّ مطلب شعبي عادل فيه مصلحة الناس والمجتمع.[22]


موقف الحكومة من الحراك

كان تعاطي الحكومة مع الحراك باهتًا منذ البداية ومفتقدًا للجدية، إذ لم تأخذ الحكومة بالدعوات لتأجيل العمل بالقانون، وبتاريخ 30/10/2018، أي بعد 15 يومًا على بدء فعاليات الحراك، تجاهل البيان الأسبوعي لمجلس الوزراء مطالب الحراك بشكل كلي، مؤكدًا أن تطبيق القانون سيبدأ في موعده المقرّر في بداية تشرين الثاني 2018.[23]


وعلى الرغم من إعلان الحكومة فيما بعد عن تشكيل لجنة وزارية للحوار مع جميع الأطراف ذات العلاقة بقانون الضمان، للخروج بأفضل نسخة منه، وذلك ضمن سلسلة من اللقاءات التي تعقد برعاية هيئة الكتل والقوائم البرلمانية[24]، إلا أنّ هذه التحركات كلّها لم تخلُ من محاولات المراوغة للالتفاف على مطالب الحراك ومحاولة تسكينه وإنهائه.


وترافق ذلك مع لجوء الأجهزة الأمنية إلى بعض أساليب القمع غير المباشر، التي يدخل ضمنها استدعاءات وُجِّهت لنشطاء وصحفيين على خلفية دعمهم للحراك، يُضاف إليها ما تعرّض له الحراك في بعض الحالات من محاولات منع وصول المحتجين إلى مواقع الاعتصام.[25]


حراك الضمان الاجتماعي: أوجه القوة والقصور

اتّسم حراك الضمان الاجتماعي بالكثافة والفاعلية وسعة الانتشار، والتنويع في الأساليب الاحتجاجية التي شملت اعتصامات أخذت أشكالًا عديدة (اعتصام الضجيح، اعتصام الزوامير) وتراوحت أزمانها بين اعتصامات ووقفات تظاهرية قصيرة مدتها ساعة أو ساعتين إلى اعتصامات طويلة امتدت لأيام عدة. واشتملت فعالياته كذلك على إضرابات جزئية، وحملات توقيع عرائض.


لكن من أبرز تمظهرات القصور التي بدت واضحة على الحراك، تشرذم مكوناته وخروجهم عن وحدوية المطالب والإجماع الشعاراتي العاكس لوحدة الهدف، فعلى الرغم من الاتساق، الذي لم يصل إلى درجة التماهي، في المطالب الذي بدا في بداية الحراك، إلا أنّ هذا الاتساق في المطالب لم يستمرّ، وذلك بعد تطوّر مطالب الحراك الفلسطيني لقانون ضمان اجتماعي عادل إلى مطلب إسقاط القانون، حيثُ أفرز هذا التطوّر انقسامًا في المطالب والأهداف، فمعظم الجهات المعترضة على قانون الضمان، والتي كانت تخرج في فعاليات واحدة، كان كل منها يحمل مطلبًا مختلفًا عن الآخر، وهو الأمر الذي استغلته الحكومة لاحقًا لعمل تسويات مع بعض مكوناته (النقابات والاتحادات المهنية والقطاعية)، سيما مع رفض مكوناته الأخرى مبدأ الحوار مع الحكومة من الأساس (الحراك الفلسطيني لإسقاط قانون الضمان بالتحالف مع النقابات العمالية الحرة).


العوامل المتحكمة في استمرارية الحراك أو انحساره

بعد إعلان الحكومة عن وصولها إلى اتفاق تسوية مع مكونات الحراك المطالبة بالتعديل[26]، فإنّ فرص استمرار الحراك فيما تبقى من مكوناته المطالبة بإسقاط القانون يبقى محكومًا بعوامل عدة، ومنها:


عوامل ذاتية تتضمن:

مدى قدرة الحراك على تطوير قدراته التنظيمية المرتبطة بامتلاك أدوات الحشد والتعبئة لاستمرارية الحراك وديمومته.[27]

مدى قدرة الحراك على مراكَمة العناصر التي تُظهره كمشروع مستقرّ، وليس كمجرّد جهد احتجاجي عشوائي مفتقر إلى الهوية والشرعية.[28]

مدى قدرة الحراك على الاستمرار في بناء التحالفات مع قطاعات مجتمعية أو حلفاء محتملين، وذوي النفوذ، حتى في بنية وتركيبة الحكومة والسلطة.[29]

مدى قدرة الحراك على بناء سلسلة ردود منظَّمة على الاتهامات الحكومية غير المعترِفة به والمشكِّكة في شرعيته وقانونيته، وذلك بحجج العشوائية والافتقار إلى الهوية الواضحة وعدم وجود قيادات تمثيلي.[30]


عوامل موضوعية تتضمن:

طبيعة تعاطي السلطة مع الحراك، إذ إنّ تنامي حجم الممارسات القمعية للسلطة تجاه الحراك قد يؤثّر فيه سلبًا ويزيد من احتمالية انحساره.

طبيعة البيئة السياسية للضفة الغربية التي تُشكّل حاضنة الحراك وميدانه، وذلك من ناحية ما تتضمنه من دوائر علائقية معقَّدة، أهمها العلاقة بالاحتلال؛ إذ إنّ ارتفاع مستويات التوتر مع الاحتلال يُحجّم حركة الحراك ويقيّده ويحرف نظر حاضنته الشعبية عنه إلى أولويات أخرى تتعلّق بالحركة لمناهضة الاحتلال ومقاومته.


خاتمة

لا يزال الحراك يشكل عامل ضغط متصاعد على الحكومة، وبخاصة في ضوء حالة الاحتقان والغضب الناجمة عن تصريحات وزير الحكم المحلي حسين الأعرج الأخيرة بالخليل والمتصلة بحراك الضمان الاجتماعي[31]، كما أعلن الحراك عن سلسلة فعاليات متصاعدة وصولًا إلى الدعوة لإضراب شامل واعتصام مركزي في البيرة بتاريخ 5/2/2019. وهو ما يفتح الطريق أمام إمكانية أن تتراجع الحكومة عن موقفها الرافض لتأجيل تنفيذ القانون، أو تبدي مزيدًا من المرونة أملًا بإبرام تسوية مع بعض مكونات الحراك المطالبة بتعديل القانون.


إن من شأن حدوث تراجع جوهري في موقف الحكومة أن يزيد فرص انحسار الحراك، وذلك على الرغم من إعلان باقي مكوناته عن استمرارها حتى إسقاطه. ولكن ذلك يبقى محكومًا بعوامل عدة، منها ما يتعلّق بحجم المنتسبين الذين سينسحبون من الحراك بعد توصّل الحكومة إلى تسوية معهم، فقد ورد على لسان أحد الناطقين الرسميين باسم الحراك الموحد لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي بأن حجم منتسبي النقابات والاتحادات المهنية والقطاعية لا يتجاوز 15% من مجموع المشاركين في الحراك[32]، ومنها ما يرتبط بمدى قدرة الحراك على التكيّف وتطويع الظروف الموضوعية المحيطة به، ومدى قدرته على تطوير ما يمتلكه من عوامل ذاتية متعلقة بقدراته على الحشد والتعبئة والتصعيد في خطواته الاحتجاجية حتى تحقيق كافة أهدافه.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.