دأب السلطان دائمًا على استئجار قرائح الشعراء وكيف لا والشعر هو الوسيلة الاعلامية الأكثر انتشارًا في عالم العرب في وقت قلَّ من يعرف القراءة والكتابة. لم تتغير الحال في وقتنا ، ازداد عدد من يعرفون القراءة والكتابة ، لكن القراءة صارت من أقل الكماليات ضرورة لحياة العرب ، اي لم يتغير الحال وظل الرواة والمحدثين من مروجي الحكايات الشعرية والغيبيات والخرافات والخوارق هم وسائل اعلام المجتمع. حمل الشعر في وقته الحكايات والأحداث حسب مفاهيم ذلك العصر، كان اما شعرًا هجائيًا أو مديحًا اما إذلالاً او تكريمًا، اما حبًا أو كراهية...أو بطولات اسطورية وما زلنا في نفس الساحة لم يتغير فينا الا وسائل تنقلنا ونوع مساكننا وأنواع أكلنا . بالطبع السلاطين العرب ازدادوا عددا وأشكالا وتعددت مناصبهم طولا وعرضا ، ارتفاعا وانخفاضا وكثر الطلب على الدلالين والمداحين ومنظمي الكلام . بما ان الشعر والشعراء هي أشهر ما تبقى في الذاكرة من موروثات تاريخ "الأمجاد العربية"، لذا طمع السلاطين بحشد الشعراء في صفوف "السحيجة"، ارادوا اخضاعهم لسلطانهم (بصفتهم حافظوا على مكانتهم كأهم وسيلة اعلامية الى جانب الدعاة والشيوخ الأجلاء ، في مجتمع سماعي يرفض استعمال كماليات القراءة ) فاستأجروا قرائح الشعراء وذممهم ، بصفتهم ممثلي الاعلام الشعبي ، بعد ضمان الاعلام الألهي باعلانهم الرسمي المتكرر اسبوعيا بالورع وطاعة الله وتقديم قرابين الدولارات وبصفتهم أولي أمره في دولهم وأحزابهم وقبائلهم. ربما تكون بعض الحكايات التي نقلها التاريخ على ألسن الشعراء، مجرد تشويه للحقيقة التاريخية وتحريفها بما يتلائم وحجم العطاء ( القربان ) الذي يهبه السلطان . حجم العطاء يقرر نوع المديح واعلاء شأن السلطان وتمجيد كل ترهاته الكلامية وبطشه واستبداده وجعل غباءه وضيق أفقه استجابة لأوامر ربانية ، بالطبع تعداد بطولاته الحربية ( مثل انتصارات العرب على الصهاينة والأمريكان ) وفحولته الأسطورية وتعداد صاحبات النعمة اللواتي فض سلطان زمانه بكارتهن .. ومع ذلك ، تاريخنا يحدثنا عن شعراء لم يخونوا كرامة الكلمة وكرامتم وكان مصيرهم الجوع والعوز أو الموت بسيف سياف السلطان. يبدو أن الحال لم يتغير في بلاد العرب وفي بلادنا، فما زال الشعر مزايدة تهدف الى احتلال المكانة في رأس الصف والحصول على المراد بالموهبة والحق ، وهو مجد ما بعده مجدًا ، تذكرة تسمح بالصولان والجولان في دنيا السلاطين ودنيانا كلها سلاطين... من السلطان الكبير ووريثه حتى سلاطين الأحزاب والتنظيمات القومية والالهية. هل بالصدفة أن أهم شعراء العرب البارزين في العصر الحديث، قضوا جل حياتهم بعيدًا عن بلادهم وعن سلاطين بلادهم حتى لا يطولهم سياف السلطان بحربته الجاهزة لقطع الرؤوس؟ قرأت للكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني مقطوعة عن معاناة الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي تمسك بالوطنية والصدق ورفض كيل المدائح الشعرية للملك فيصل في العراق وزلمه امثال نوري السعيد ... فجاع ولولا الجيران والاصحاب لمات جوعًا. الرصافي اختار الموت معوزًا جائعا على الموت في بحبوبة السلطان، كان معروف الرصافي يستدين من بقالة في الأعظمية لشخص اسمه جمعة العطار، لكنه يعجز عن سداد دينه، حتى قرر جمعة العطار وقف تزويد الشاعر بما يسد رمقه ، حتى يسد ما تراكم عليه من ديون. لكن من اين للرصافي ان يسد ديونه المتراكمة... وهو يرفض الخضوع لسلطان زمانه، الملك فيصل ويمدحه بغير وجه حق...؟! فما كان من الرصافي إلا أن كتب بيتين من الشعر يُنفس فيهما عن مشاعره على الظلم والتعسف الذي لحقه من جمعة العطار، الذي ربما راى فيه سياف السلطان، الذي يقطع الرؤوس بالجوع وهي تكنلوجيا حديثة ابتكرها العرب، لم يحصل مبتكرها على نوبل ولو كان مبتكرها يهوديا لجاء نوبل من قبره ليقدم الجائزة المرجوة. قال الرصافي: عجبت لأهل الأعظمية كيف لا يرضون جيرة جمعة العطار جاورته زمنًا وكان جواره في منتهى الانصاف، شر جوار ولكن جمعة العطار لم يتراجع عن موقفه... ومات الشاعر فقيرًا معوزًا جائعًا، لكنه لم يخن كرامته الوطنية ومصداقيته... وخلد في شعره جمعة العطار ، قاطع الرقاب بالجوع .. اليوم أصبح الكثير من الشعراء بغنى عن جمعة العطار وتحكمه ، لكنهم أكثر بعدًا عن الرصافي واعتزازه بنفسه وأدبه ... فقدت الكلمة قيمتها وباتت الصفحات مليئة بالمدائح لمن لا يستحقون أكثر من بصقة ... وأصبحت الوطنية تقاس بعدد الكلمات وضخامة معانيها . أصبح التهريج مقياسا للوطنية ، صار كل مكتشف لسر صياغة الكلام شاعرا وطنيا بعد ان كان منخرسا حفاظا على نفسه ومصالحه ومداخيله. انخرسوا حين كان شعبنا يدفع ثمنا رهيبا بحريته وبلقمة خبزه . اليوم يريدون اقناعنا بمصداقيتهم الوطنية والشخصية ، بل ويتدافشون على موطئ قدم في ساحات التحرير. أقنعوا "جمعة العطار" الملأى رفوف دكاكينه بما لذ وطاب من نعم ، بأنهم نعم الزبائن .. فابشروا وانشروا تفاهاتكم ، ما تزال جوارير السلاطين الصامدين ملأى بالدولار واليورو والشيكل . أين من ينشر ويكتب اليوم من التحدي السياسي الوطني مثل :"سجل أنا عربي" التي اطلقها محمود درويش و"سجل اسمي في القائمة السوداء" التي أطلقها سالم جبران ، في ظل أشرس هجمة للسلطة الصهيونية الغاشمة لتقييد حرية الحركة للأدباء والمناضلين الشرفاء باقامات جبرية هي أشبه بسجن داخل حدود بلدات ضيقة على الذين وقفوا بصدورهم المتحدية وأكفهم العارية يتحدون بطشها وعنصريتها ، ضد الذين ولدتهم امهاتهم أحرارا وما لأي بطش ان يكسر عزيمتهم واصرارهم على حقوقهم وحريتهم ؟ لم يكسرهم تعسف السلطان واغلاق جمعة العطار (الصهيوني) ابواب سد الرمق امامهم وأمام أطفالهم . شعراءنا ومثقفينا ومناضلينا وشبابنا وشيوخنا ونساءنا ورجالنا لم يهادنوا السلطان حتى في أحلك ايامه وأكثرها سطوة وتعسف ، نحن مجرد أقلية فقدت وطنها، وتعلمت ان لا تحلم بنخوة السلاطين لنجدتها وان تعتمد على ذراعها وقدراتها وفقدت تواصلها القومي مع الشعوب العربية التي قهرها سلاطينها بالفقر والارهاب . كانت طليعة مناضلة هي توائم لمعروف الرصافي ،واجهت وأفشلت بأجسادها مؤامرة الطرد من الوطن ، حين كان المتنعمون اليوم "يقرفصون" على عتبة السلطان . أين هم من شعراء صلبوا في الزنازين ( توفيق زياد صلب في سجن طبريا لإصراره على التظاهر في اول ايار 1958)وشتتوا بالسجون والمنافي ؟! اين هم اليوم من مثقفين لم يرضوا حتى بالصمت ، جاهروا بمواقفهم وطردوا من التعليم ومن العمل ، ضيقوا مصادر الرزق عليهم ولم يشتروا رضاء السلطان حتى بكلمة كاذبة . لا أريد التعرض لعباقرة الشعر والنثر والفلسفة والسياسة اليوم ولا للذين صاروا سحيجة لكل ما يصاغ نثرا أو شعرا ، بعملية تخريب وافساد لم أجد في تاريخ الشعوب الثقافي أو السياسي مثيلا لها . حتى اللغة فقدت قيمتها .. لا أهمية لما تنشر ، المهم ان تضبط قواعد اللغة وتملأ صياغاتك بياض الجريدة أو صفحات الكتب. الويل اذا القي القبض على خطأ لغوي .. مسموح لك ان تخطئ في استقامتك ، ان تخطئ في مصداقيتك ، ان تخطئ في شرفك ، ان تخطئ في وطنيتك ، ان تخطئ في مدح السلطان ،ان تبيع نفسك ببعض الفضة ، ببعض الشواقل ولكن الويل اذا أخطأت بتشكيل آخر الكلمة. الذين لا شعر أو نثر فيما ينشرون، لا معنى لما يكتبون ، بلا لغة مفهومة ... فما قيمة اللغة عندما تصبح كلمات لا معنى لها، كيفما قرأتها من فوق الى تحت أو بالعكس، لا يتغير المعنى ويجب ان تقر رغما عنك ، انك امام مبدع طال انتظارنا له ، أكثر من انتظار اليهود للمسيح .. المهم ان تضرب بسيف السلطان ، مهما كانت مرتبته متدنية ، أو مجموعة سلاطين اذا كنت عبقريا، سنسميك شاعرا وكاتبا وناقدا وأديبا عبقريا وسياسيا وطنيا بعثيا ناصريا وشيوعيا وحزبيا الهيا ومفكرا عربيا في أحضان امراء النفط ودولاراتهم، ومناضلا لم يبدأ النضال والصمود الا مع ظهوره وتجليه بعد أن صمت طويلا وحين صار ضامنا للدخل من سلطان أو أكثر تفتحت مواهبه الوطنية والابداعية . الشاعر الوطني جدًا، على آخر العمر...لا يفهم ما يكتب، فكيف يفهم القراء؟! كان السلطان يستأجر القرائح بالمال والخوف من سيف سيافه، فصار "السلطان" يستأجر القرائح بالألقاب والنشر والمدائح والتصنيف الوطني... بعد أن استتب أمن المعاش وزال الخوف من المجاهرة بالرأي !! هل الرأي الذي يطرح حين تزول المخاوف ، له نفس قيمة الرأي الذي يطرح ويتعرض صاحبة لبطش السلطان ؟! هل الراي الذي يطرح بتفكير واختيار صعب للمعاني ، للتحايل على قوانين السلطان ، قيمته نفس قيمة الرأي الذي يقال بدون أي حساب وبدون أي تفكير وبدو ملابسات تعرضك للبطش السلطاني ؟! هناك شعراء قتلهم شعرهم واليوم تقتل التفاهة الشعر ، تقتل الأدب الجيد ، تقتل المواقف ،تقتل العقلانية ، تقتل الفكر ... وتقتل اللغة... وتقتل الكرامة الشخصية... وتقتل رغبة القراءة لدى القراء. يقول الشاعر محمود درويش:"الشعر هو الذي يعيد الحياة الى اللغة " وفي عصر شعري مثل عصرنا المأزوم ( داخل اسرائيل على الأقل ) الذي استهلك اللغة وأهانها، نحتاج حقًا الى إعادة تفكير، إعادة ترتيب بيتنا الثقافي ، الفصل بين الأدب وبين الضحالة التي اغرقتنا، علنا نُعيد للكلمة رونقها، للنص جماليته، للغة معناها وقيمتها، للشعر اسطورته، للأدب قيمته التي نفتقدها وللعقلانية منبرها ومكانتها وسطوتها . امنيات .. ولكن تجربتنا علمتنا انه لا شيء مستحيل !! *- الشعراء هم أفضل رمز للمثقف في كل زمان ، وخاصة في ثقافتنا العربية .


السلطان والشعراء*
 

بقلم : نبيل عودة
 


دأب السلطان دائمًا على استئجار قرائح الشعراء وكيف لا  والشعر هو الوسيلة الاعلامية الأكثر انتشارًا في عالم العرب في وقت قلَّ من يعرف القراءة والكتابة.

 لم تتغير الحال في وقتنا ، ازداد عدد من يعرفون القراءة والكتابة ، لكن القراءة صارت من أقل الكماليات ضرورة لحياة العرب ، اي لم يتغير الحال وظل الرواة والمحدثين من مروجي الحكايات الشعرية والغيبيات والخرافات والخوارق هم وسائل اعلام المجتمع.

حمل الشعر في وقته الحكايات والأحداث  حسب مفاهيم ذلك العصر، كان اما شعرًا هجائيًا أو مديحًا اما إذلالاً او تكريمًا، اما حبًا أو كراهية...أو بطولات اسطورية وما زلنا في نفس الساحة لم يتغير فينا الا وسائل تنقلنا ونوع مساكننا  وأنواع أكلنا .

بالطبع السلاطين العرب ازدادوا عددا وأشكالا وتعددت مناصبهم طولا وعرضا ، ارتفاعا وانخفاضا وكثر الطلب على الدلالين والمداحين ومنظمي الكلام . 

بما ان الشعر والشعراء هي أشهر ما تبقى في الذاكرة من موروثات تاريخ "الأمجاد العربية"، لذا طمع السلاطين بحشد الشعراء في صفوف "السحيجة"، ارادوا اخضاعهم لسلطانهم (بصفتهم حافظوا على مكانتهم كأهم وسيلة اعلامية الى جانب الدعاة والشيوخ الأجلاء ، في مجتمع سماعي يرفض استعمال كماليات القراءة ) فاستأجروا قرائح الشعراء وذممهم ، بصفتهم ممثلي الاعلام الشعبي ، بعد ضمان الاعلام الألهي باعلانهم الرسمي المتكرر اسبوعيا بالورع وطاعة الله وتقديم قرابين الدولارات  وبصفتهم أولي أمره في دولهم وأحزابهم وقبائلهم.

ربما تكون بعض الحكايات التي نقلها التاريخ على ألسن الشعراء، مجرد تشويه للحقيقة التاريخية وتحريفها بما يتلائم وحجم العطاء ( القربان ) الذي يهبه السلطان . حجم العطاء يقرر نوع المديح واعلاء شأن السلطان وتمجيد كل ترهاته الكلامية وبطشه واستبداده وجعل غباءه وضيق أفقه استجابة لأوامر ربانية ، بالطبع تعداد بطولاته الحربية ( مثل انتصارات العرب على الصهاينة والأمريكان ) وفحولته الأسطورية وتعداد صاحبات النعمة اللواتي فض سلطان زمانه بكارتهن .. 
ومع ذلك ، تاريخنا يحدثنا عن شعراء لم يخونوا كرامة الكلمة وكرامتم وكان مصيرهم الجوع والعوز أو الموت بسيف سياف السلطان.

يبدو أن الحال لم يتغير في بلاد العرب وفي بلادنا، فما زال الشعر مزايدة تهدف الى احتلال المكانة في رأس الصف والحصول على المراد بالموهبة والحق ، وهو مجد ما بعده مجدًا ، تذكرة تسمح بالصولان والجولان في دنيا السلاطين ودنيانا كلها سلاطين... من السلطان الكبير ووريثه حتى سلاطين الأحزاب والتنظيمات القومية والالهية.

هل بالصدفة أن أهم شعراء العرب البارزين في العصر الحديث، قضوا جل حياتهم بعيدًا عن بلادهم وعن سلاطين بلادهم حتى لا يطولهم سياف السلطان بحربته الجاهزة لقطع الرؤوس؟ 

قرأت للكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني مقطوعة عن معاناة الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي تمسك بالوطنية والصدق ورفض كيل المدائح الشعرية للملك فيصل في العراق وزلمه امثال نوري السعيد ... فجاع  ولولا الجيران والاصحاب لمات جوعًا.

الرصافي اختار الموت معوزًا جائعا على الموت في بحبوبة السلطان، كان معروف الرصافي يستدين من بقالة في الأعظمية لشخص اسمه جمعة العطار، لكنه يعجز عن سداد دينه، حتى قرر جمعة العطار وقف تزويد الشاعر بما يسد رمقه ، حتى يسد ما تراكم عليه من ديون. لكن من اين للرصافي ان يسد ديونه المتراكمة... وهو يرفض الخضوع لسلطان زمانه، الملك فيصل  ويمدحه بغير وجه حق...؟! فما كان من الرصافي إلا أن كتب بيتين من الشعر يُنفس فيهما عن مشاعره على الظلم والتعسف الذي لحقه من جمعة العطار، الذي ربما راى فيه سياف السلطان، الذي يقطع الرؤوس بالجوع وهي تكنلوجيا حديثة ابتكرها العرب، لم يحصل مبتكرها على نوبل  ولو كان مبتكرها يهوديا لجاء نوبل من قبره ليقدم الجائزة المرجوة. 

قال الرصافي: 
عجبت لأهل الأعظمية كيف لا يرضون جيرة جمعة العطار
جاورته زمنًا وكان جواره في منتهى الانصاف، شر جوار 

ولكن جمعة العطار لم يتراجع عن موقفه... ومات الشاعر فقيرًا معوزًا جائعًا، لكنه لم يخن كرامته الوطنية ومصداقيته... وخلد في شعره جمعة العطار ، قاطع الرقاب بالجوع ..

اليوم أصبح الكثير من الشعراء بغنى عن جمعة العطار وتحكمه ، لكنهم أكثر بعدًا عن الرصافي واعتزازه بنفسه وأدبه ...

فقدت الكلمة قيمتها  وباتت الصفحات مليئة بالمدائح لمن لا يستحقون أكثر من بصقة ... وأصبحت الوطنية تقاس بعدد الكلمات وضخامة معانيها . أصبح التهريج مقياسا للوطنية ، صار كل مكتشف لسر صياغة الكلام شاعرا وطنيا بعد ان كان منخرسا حفاظا على نفسه ومصالحه ومداخيله. 

انخرسوا حين كان شعبنا يدفع ثمنا رهيبا بحريته وبلقمة خبزه .

اليوم يريدون اقناعنا بمصداقيتهم الوطنية والشخصية ، بل ويتدافشون على موطئ قدم في ساحات التحرير.

أقنعوا "جمعة العطار" الملأى رفوف دكاكينه بما لذ وطاب من نعم ، بأنهم نعم الزبائن .. فابشروا وانشروا تفاهاتكم ، ما تزال جوارير السلاطين الصامدين ملأى بالدولار واليورو والشيكل .

أين من ينشر ويكتب اليوم من التحدي السياسي الوطني مثل :"سجل أنا عربي" التي اطلقها محمود درويش و"سجل اسمي في القائمة السوداء" التي أطلقها سالم جبران ، في ظل أشرس هجمة للسلطة الصهيونية الغاشمة لتقييد حرية الحركة للأدباء والمناضلين الشرفاء باقامات جبرية هي أشبه بسجن داخل حدود بلدات ضيقة على الذين وقفوا بصدورهم المتحدية  وأكفهم العارية يتحدون بطشها وعنصريتها ، ضد الذين ولدتهم امهاتهم أحرارا  وما لأي بطش ان يكسر عزيمتهم واصرارهم على حقوقهم وحريتهم ؟

لم يكسرهم تعسف السلطان  واغلاق جمعة العطار (الصهيوني) ابواب سد الرمق امامهم وأمام أطفالهم .

شعراءنا ومثقفينا ومناضلينا وشبابنا وشيوخنا ونساءنا ورجالنا لم يهادنوا السلطان حتى في أحلك ايامه وأكثرها سطوة وتعسف ، نحن مجرد أقلية فقدت وطنها، وتعلمت ان لا تحلم بنخوة السلاطين لنجدتها وان تعتمد على ذراعها وقدراتها  وفقدت تواصلها القومي مع الشعوب العربية  التي قهرها سلاطينها بالفقر والارهاب . 

كانت طليعة مناضلة هي توائم لمعروف الرصافي ،واجهت وأفشلت بأجسادها   مؤامرة الطرد من الوطن ، حين كان المتنعمون اليوم "يقرفصون" على عتبة السلطان . أين هم من شعراء صلبوا في الزنازين ( توفيق زياد صلب في سجن طبريا لإصراره على التظاهر في اول ايار 1958)وشتتوا بالسجون والمنافي ؟! اين هم اليوم من مثقفين لم يرضوا حتى بالصمت ، جاهروا بمواقفهم وطردوا من التعليم ومن العمل ، ضيقوا مصادر الرزق عليهم  ولم يشتروا رضاء السلطان حتى بكلمة كاذبة . 

لا أريد التعرض لعباقرة الشعر والنثر والفلسفة والسياسة اليوم  ولا للذين صاروا سحيجة لكل ما يصاغ نثرا أو شعرا ، بعملية تخريب وافساد لم أجد في تاريخ الشعوب الثقافي أو السياسي مثيلا لها .

حتى اللغة فقدت قيمتها .. لا أهمية لما تنشر ، المهم ان تضبط قواعد اللغة وتملأ صياغاتك بياض الجريدة أو صفحات الكتب.

الويل اذا القي القبض على خطأ لغوي .. مسموح لك ان تخطئ في استقامتك ، ان تخطئ في مصداقيتك ، ان تخطئ في شرفك ، ان تخطئ في وطنيتك ، ان تخطئ في مدح السلطان ،ان تبيع نفسك ببعض الفضة ، ببعض الشواقل  ولكن الويل اذا أخطأت بتشكيل آخر الكلمة.

الذين لا شعر أو نثر فيما ينشرون، لا معنى لما يكتبون ، بلا لغة مفهومة ... فما قيمة اللغة عندما تصبح كلمات لا معنى لها، كيفما قرأتها من فوق الى تحت أو بالعكس، لا يتغير المعنى  ويجب ان تقر رغما عنك ، انك امام مبدع طال انتظارنا له ، أكثر من انتظار اليهود للمسيح .. المهم ان تضرب بسيف السلطان ، مهما كانت مرتبته متدنية ، أو مجموعة سلاطين اذا كنت عبقريا، سنسميك شاعرا وكاتبا وناقدا وأديبا عبقريا وسياسيا وطنيا بعثيا ناصريا وشيوعيا وحزبيا الهيا ومفكرا عربيا في أحضان امراء النفط ودولاراتهم، ومناضلا لم يبدأ النضال والصمود الا مع ظهوره وتجليه بعد أن صمت طويلا  وحين صار ضامنا للدخل من سلطان أو أكثر  تفتحت مواهبه الوطنية والابداعية .

الشاعر الوطني جدًا، على آخر العمر...لا يفهم ما يكتب، فكيف يفهم القراء؟! كان السلطان يستأجر القرائح بالمال والخوف من سيف سيافه، فصار "السلطان" يستأجر القرائح بالألقاب والنشر والمدائح والتصنيف الوطني... بعد أن استتب أمن المعاش وزال الخوف من المجاهرة بالرأي !!

هل الرأي الذي يطرح حين تزول المخاوف ، له نفس قيمة الرأي الذي يطرح ويتعرض صاحبة لبطش السلطان ؟!

هل الراي الذي يطرح بتفكير واختيار صعب للمعاني ، للتحايل على قوانين السلطان ، قيمته نفس قيمة الرأي الذي يقال بدون أي حساب وبدون أي تفكير وبدو ملابسات تعرضك للبطش السلطاني ؟!

هناك شعراء قتلهم شعرهم واليوم تقتل التفاهة الشعر ، تقتل الأدب الجيد ، تقتل المواقف ،تقتل العقلانية ، تقتل الفكر ... وتقتل اللغة... وتقتل الكرامة الشخصية... وتقتل رغبة القراءة لدى القراء. يقول الشاعر محمود درويش:"الشعر هو الذي يعيد الحياة الى اللغة " وفي عصر شعري مثل عصرنا المأزوم ( داخل اسرائيل على الأقل ) الذي استهلك اللغة وأهانها، نحتاج حقًا الى إعادة تفكير، إعادة ترتيب بيتنا الثقافي ، الفصل بين الأدب وبين الضحالة التي اغرقتنا، علنا نُعيد للكلمة رونقها، للنص جماليته، للغة معناها وقيمتها، للشعر اسطورته، للأدب قيمته التي نفتقدها  وللعقلانية منبرها ومكانتها وسطوتها .

امنيات .. ولكن تجربتنا علمتنا انه لا شيء مستحيل !!

*- الشعراء هم أفضل رمز للمثقف في كل زمان ، وخاصة في ثقافتنا العربية .
 
 
 
 
 
                                                                                                  

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.