اذا كانت النكبة قد اقتلعت شعباً من أرضه مقابل استيطان شعب آخر فيها، فإن النكسة العام 1967 وسقوط القدس كانت أشد وأنكى وأمرّ، إن سقوط القدس لا يعني سقوط غرناطة او سقوط بغداد او الاستيلاء على دمشق، سقوط القدس عادة ما يرمز إلى خراب وضياع ورخاوة وعدم أهلية مَنْ تضيع منهم البلاد. القدس ليست ككل المدن. إن احتلال الاماكن المقدسة يعني سقوط الكرامة والعزّة، إن تدنيس المقدس هو قمة الهزيمة، ولهذا نفهم لماذا شارك صلاح الدين الايوبي بنفسه في غسل المسجد الاقصى بماء الورد بعد احتلاله لمدة تزيد عن ثمانين عاماً. النكبة – في أحد معانيها – ضعف الانظمة وخيانتها وعدم قدرتها على التنسيق أو المشاركة، ولكن النكسة – في أحد معانيها أيضاً – أن تلك الانظمة لم تفقد الشرعية فقط وإنما فقدت الرغبة في العمل او حتى الاستعداد له. النكسة كانت فضيحة مدوية اكثر دوياً وضجيجاً من النكبة. النكسة – وهي هزيمة مرّة بأبعاد خطيرة وقد رسمت المنطقة حتى هذه اللحظة – كانت بداية القبول بإسرائيل والتعامل معها والخضوع للأمر الواقع الذي فرضته. النكسة كانت فضيحة لأن الانظمة التي واجهتها ادّعت القومية والاشتراكية والجماهيرية والجاهزية، على عكس الأنظمة التي واجهت الصهيونية العام 1948، كانت فضيحة أيضاً لأن الانظمة العربية العام 1967 كانت تخدع بالقول إِنها أتت لتعبر عن المطامح والآمال والتطلعات القومية والوحدوية والعروبية، على عكس الأنظمة العام 1948 التي كانت مرتَهنة بأوامر المستعمِر العلني أو الخفي. كانت النكسة فضيحة لا تغتفر لأن انظمة العام 1967 أتت إلى سدة الحكم على أساس من نكبة العام 1948 ومن أجل تجاوزها وتصحيحها لكنها سقطت في ذات الهوة بطريقة اكثر قبحاً واكثر فضائحية. ضياع القدس فيما سمي بالنكسة يشبه العقاب الجماعي الذي يحل بالأمة إن لم يكن العقاب كله والعذاب كله والمرارة كلها والهزيمة والذل والهوان. وإن استعادة القدس تعني امتلاك كل ذلك دفعة واحدة، وأُبعد في القول لاقول: إن استعادة القدس هي الشرط الوحيد من أجل أن تحيا الأمة حياة طبيعية تستطيع فيها أن تتنفس الهواء وتأكل الطعام . الحياة بدون القدس ناقصة ولا تستحق أن تكون، الحياة بدون القدس كريهة وضيقة ولا سبيل إلى الاستمتاع بشيء. إن ضياع القدس لا يعني ضياعها فقط، بل يعني أيضاً تهديد عمّان ودمشق والقاهرة ومكة، وضياع القدس لا يعني تشريد الشعب الفلسطيني أو قمعه او منعه من التطور، ولكنه أيضاً يعني تجويع الشعب العربي وحصاره ومنعه من التطور وامتلاك أسباب القوة، ذلك أن إسرائيل لا تمنع الشعب الفلسطيني حقوقه وتطوره، وإنما تقوم أيضاً بتجفيف أسباب القوة والمنعة في دول المحيط، حتى تقوى إسرائيل ويضعف من حولها، وحتى تنمو إسرائيل ويموت من حولها، اذن ضياع القدس لا يعني ضياع مدينة بل ضياع مستقبل ايضاً. ولهذا فإن النكسة بمعناها وتجلياتها وآثارها ونتائجها اشد مضاضة من النكبة وأعمق مرارة وأشد وطأة. إن النكبة ومن بعدها النكسة وما رافقهما من ضعف وفشل عربي، قد حولتا الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ مُشردٍ ومشتت، ومورست عليه عمليات التهميش والتغييب والنكران والتجريم وسحب الشرعيات والتعريفات عنه. إن هذه الآليات المختلفة التي مارسها الصديق قبل العدو حولت الشعب الفلسطيني عملياً إلى شعب فريد، وتنبع فرادته من قدرته على الصمود أمام كل هذه العمليات التي تشارك فيها قوى ذات جبروت وطغيان. تنبع فرادة هذا الشعب من قدرته على الثورة – بغض النظر الآن عمّا افضت إليه هذه الثورة - . فرادة الشعب الفلسطيني في قدرته على تحويل الخيمة من خيمة لجوء إلى خيمة ثوار، وتحويل المنفى ليس إلى مكان للنجاح او النجاة بل إلى مكان للاستعداد والاحتشاد، وتحويل المأساة إلى حكاية لم تكتمل ولم تكتب نهايتها، وتحويل الهزيمة إلى مشارف الطريق المؤدية إلى النصر، وتحول الشعب الفلسطيني شاهداً – بعد أن كان شهيداً – على استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني التوسعي والاحتلالي والإحلالي ايضاً. وبهذا الصدد فإن المخيم – كوحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية – يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كله. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحملوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم – نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبي، ما بين متطلبات الثورة وفضائها وبين متطلبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء، جغرافياً – بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها – وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الاندماج فيه – واقتصادياً – باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية – وسياسياً – باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والانتخاب – كل ذلك جعل المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف، الثورة كانت حلاً ولكنها ليست كل الحلول، وخاصة بعد انكفائها. المخيم – وهو وضع استثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها – منقسم على ذاته لأنه موّزع بين الانتماءات وموزّع بين الولاءات وموزّع بين الأمكنة، ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب، المنفى تجربة مهيضة وقاسية – وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجىء على تعريف نفسه بقوة وتطرف، فإنه أي المنفى – قادر على إجبار أو إقناع اللاجىء بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم – باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة – أُجبر الفلسطيني اللاجىء – كرهاً أو طواعية – على أن يحدد انتماءاته وخياراته. ولكن، وبذات الوقت، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فقط، وعليه، فإن المخيم يتعرض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم. المخيم الصامد، مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلم الاجيال، ومعلم الايام ايضاً، الذي طور له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة ومن ثم القريب والغريب على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء ام لم يشأ، الثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني ايضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟ – وعندما اختار المخيم اصطدم بما حوله سريعاً، ومن هنا تعلم المخيم أن يكون متوجساً وشكاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد إسرائيل، فإنه طور أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط الذي يحيا فيه المخيم المعزول والممنوع والفقير والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء، طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجىء، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجىء ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقل جدلاً وأقل رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حد كبير، ولكنه أيضاً قنبلة اجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم او تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط، ومن هنا، فإن حل القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك "عبسي" واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الاقل لا تنفيه. يجب الاعتراف بقوة وصرامة أن المخيم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ – بنيّة حسنة أو غير حسنة – فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأن سكانه يجب – وهنا أكتب "يجب" بخط كبير وألفظها بملء الفم – أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، هذا هو واجب الناس الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرط فيه فإنه عملياً يقبل أن يأتي الاثيوبي إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها – إقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و 1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم -. ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لُبس فيه، فان المخيم الذي يحيا اليومي والنسبي ومتطلبات الحياة اليومية من اكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية وأشكال سلوك متغيرة ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبي، يتحول شيئاً فشيئاً – وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الاصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية – فإن المخيم يتحول إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات . لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجىء الذي يحيا على الأحلام ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز سيطور سلوكاً غير متوقع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالهزيمة حتى وان توالت لن تؤدي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتل، والفقر والنكران لن يحول المجروحين إلى قديسين يدعون إلى محبة العدو الذي نقدم له الخد الايمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية، وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقل ويحصلون على حقوق وواجبات أقل، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مدانة أصلاً، إن وضعاً كهذا – وإن استمر بشكل او بآخر – وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر – وإنْ تمّ – تدجينه بشكل أو بآخر – لا يمكن له أن يستمر. إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل دون إيجاد حل لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني موزعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل اليها البريد . وكلما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم – متعددة المستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب الآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً – وبذات الدرجة من القوة – بسبب أزمة او أزمات الأَنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات. إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمق يوماً بعد يوم، وهي ازمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون . إن تجسد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع – أو في الضفة فقط في هذه الاثناء – لم يساعد حتى اللحظة في حل ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ إِن تجسد السلطة الوطنية بدا وكأنه حل نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر قاطنو المخيمات منفى أبديا، أم تجنيسا أم توطينا أم تعويضا أم عودة مجزوءة. هذه الاسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوة، الأمر الذي يزيد من حدة وتطرف المسألة، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجىء – واللاجىء ليس مهاجرا ولا مغامرا ولا مستوطنا -، وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الهزائم والأزمات ثم التفتيت و الانقسام، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعُّذَّب وحُوصر، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقَْبل فيها إسرائيل وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم بوحله أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد ... شديد، وعلينا الانتباه!

اذا كانت النكبة قد اقتلعت شعباً من أرضه مقابل استيطان شعب آخر فيها، فإن النكسة العام 1967 وسقوط القدس كانت أشد وأنكى وأمرّ، إن سقوط القدس لا يعني سقوط غرناطة او سقوط بغداد او الاستيلاء على دمشق، سقوط القدس عادة ما يرمز إلى خراب وضياع ورخاوة وعدم أهلية مَنْ تضيع منهم البلاد. القدس ليست ككل المدن.  إن احتلال الاماكن المقدسة يعني سقوط الكرامة والعزّة، إن تدنيس المقدس هو قمة الهزيمة، ولهذا نفهم لماذا شارك صلاح الدين الايوبي بنفسه في غسل المسجد الاقصى بماء الورد بعد احتلاله لمدة تزيد عن ثمانين عاماً. النكبة – في أحد معانيها – ضعف الانظمة وخيانتها وعدم قدرتها على التنسيق أو المشاركة، ولكن النكسة – في أحد معانيها أيضاً – أن تلك الانظمة لم تفقد الشرعية فقط وإنما فقدت الرغبة في العمل او حتى الاستعداد له. النكسة كانت فضيحة مدوية اكثر دوياً وضجيجاً من النكبة. النكسة – وهي هزيمة مرّة بأبعاد خطيرة وقد رسمت المنطقة حتى هذه اللحظة – كانت بداية القبول بإسرائيل والتعامل معها والخضوع للأمر الواقع الذي فرضته. النكسة كانت فضيحة لأن الانظمة التي واجهتها ادّعت القومية والاشتراكية والجماهيرية والجاهزية، على عكس الأنظمة التي واجهت الصهيونية العام 1948، كانت فضيحة أيضاً لأن الانظمة العربية العام 1967 كانت تخدع بالقول إِنها أتت لتعبر عن المطامح والآمال والتطلعات القومية والوحدوية والعروبية، على عكس الأنظمة العام 1948 التي كانت مرتَهنة بأوامر المستعمِر العلني أو الخفي. كانت النكسة فضيحة لا تغتفر لأن انظمة العام 1967 أتت إلى سدة الحكم على أساس من نكبة العام 1948 ومن أجل تجاوزها وتصحيحها لكنها سقطت في ذات الهوة بطريقة اكثر قبحاً واكثر فضائحية.

ضياع القدس فيما سمي بالنكسة يشبه العقاب الجماعي الذي يحل بالأمة إن لم يكن العقاب كله والعذاب كله والمرارة كلها والهزيمة والذل والهوان. وإن استعادة القدس تعني امتلاك كل ذلك دفعة واحدة، وأُبعد في القول لاقول: إن استعادة القدس هي الشرط الوحيد من أجل أن تحيا الأمة حياة طبيعية تستطيع فيها أن تتنفس الهواء وتأكل الطعام . الحياة بدون القدس ناقصة ولا تستحق أن تكون، الحياة بدون القدس كريهة وضيقة ولا سبيل إلى الاستمتاع بشيء.

إن ضياع القدس لا يعني ضياعها فقط، بل يعني أيضاً تهديد عمّان ودمشق والقاهرة ومكة، وضياع القدس لا يعني تشريد الشعب الفلسطيني أو قمعه او منعه من التطور، ولكنه أيضاً يعني تجويع الشعب العربي وحصاره ومنعه من التطور وامتلاك أسباب القوة، ذلك أن إسرائيل لا تمنع الشعب الفلسطيني حقوقه وتطوره، وإنما تقوم أيضاً بتجفيف أسباب القوة والمنعة في دول المحيط، حتى تقوى إسرائيل ويضعف من حولها، وحتى تنمو إسرائيل ويموت من حولها، اذن ضياع القدس لا يعني ضياع مدينة بل ضياع مستقبل ايضاً.

ولهذا فإن النكسة بمعناها وتجلياتها وآثارها ونتائجها اشد مضاضة من النكبة وأعمق مرارة وأشد وطأة.

إن النكبة ومن بعدها النكسة وما رافقهما من ضعف وفشل عربي، قد حولتا الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ مُشردٍ ومشتت، ومورست عليه عمليات التهميش والتغييب والنكران والتجريم وسحب الشرعيات والتعريفات عنه. إن هذه الآليات المختلفة التي مارسها الصديق قبل العدو حولت الشعب الفلسطيني عملياً إلى شعب فريد، وتنبع فرادته من قدرته على الصمود أمام كل هذه العمليات التي تشارك فيها قوى ذات جبروت وطغيان. تنبع فرادة هذا الشعب من قدرته على الثورة – بغض النظر الآن عمّا افضت إليه هذه الثورة - .

فرادة الشعب الفلسطيني في قدرته على تحويل الخيمة من خيمة لجوء إلى خيمة ثوار، وتحويل المنفى ليس إلى مكان للنجاح او النجاة بل إلى مكان للاستعداد والاحتشاد، وتحويل المأساة إلى حكاية لم تكتمل ولم تكتب نهايتها، وتحويل الهزيمة إلى مشارف الطريق المؤدية إلى النصر، وتحول الشعب الفلسطيني شاهداً – بعد أن كان شهيداً – على استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني التوسعي والاحتلالي والإحلالي ايضاً.

وبهذا الصدد فإن المخيم – كوحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية – يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كله. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحملوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم – نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبي، ما بين متطلبات الثورة وفضائها وبين متطلبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء، جغرافياً – بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها – وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الاندماج فيه – واقتصادياً – باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية – وسياسياً – باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والانتخاب – كل ذلك جعل المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف، الثورة كانت حلاً ولكنها ليست كل الحلول، وخاصة بعد انكفائها. المخيم – وهو وضع استثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها – منقسم على ذاته لأنه موّزع بين الانتماءات وموزّع بين الولاءات وموزّع بين الأمكنة، ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب، المنفى تجربة مهيضة وقاسية – وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجىء على تعريف نفسه بقوة وتطرف، فإنه أي المنفى – قادر على إجبار أو إقناع اللاجىء بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم – باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة – أُجبر الفلسطيني اللاجىء – كرهاً أو طواعية – على أن يحدد انتماءاته وخياراته.  ولكن، وبذات الوقت، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فقط، وعليه، فإن المخيم يتعرض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم.

المخيم الصامد، مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلم الاجيال، ومعلم الايام ايضاً، الذي طور له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة ومن ثم القريب والغريب على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء ام لم يشأ، الثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني ايضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟ – وعندما اختار المخيم اصطدم بما حوله سريعاً، ومن هنا تعلم المخيم أن يكون متوجساً وشكاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد إسرائيل، فإنه طور أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط الذي يحيا فيه المخيم المعزول والممنوع والفقير والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء، طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجىء، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجىء ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقل جدلاً وأقل رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حد كبير، ولكنه أيضاً قنبلة اجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم او تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج إسرائيل فقط، ومن هنا، فإن حل القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك "عبسي" واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الاقل لا تنفيه.

يجب الاعتراف بقوة وصرامة أن المخيم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ – بنيّة حسنة أو غير حسنة – فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأن سكانه يجب – وهنا أكتب "يجب" بخط كبير وألفظها بملء الفم – أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، هذا هو واجب الناس الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرط  فيه فإنه عملياً يقبل أن يأتي الاثيوبي إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها – إقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و 1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم -. ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لُبس فيه، فان المخيم الذي يحيا اليومي والنسبي ومتطلبات الحياة اليومية من اكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية وأشكال سلوك متغيرة ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبي، يتحول شيئاً فشيئاً – وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الاصوات عن العودة  أو مضامينها الحقيقية – فإن المخيم يتحول إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات . لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجىء الذي يحيا على الأحلام ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز سيطور سلوكاً غير متوقع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالهزيمة حتى وان توالت لن تؤدي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتل، والفقر والنكران لن يحول المجروحين إلى قديسين يدعون إلى محبة العدو الذي نقدم له الخد الايمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية، وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقل ويحصلون على حقوق وواجبات أقل، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مدانة أصلاً، إن وضعاً كهذا – وإن استمر بشكل او بآخر –  وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر – وإنْ تمّ – تدجينه بشكل أو بآخر – لا يمكن له أن يستمر. إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل دون إيجاد حل لأكثر من خمسة ملايين فلسطيني موزعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل اليها البريد .

وكلما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم – متعددة المستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب الآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً – وبذات الدرجة من القوة – بسبب أزمة او أزمات الأَنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات.

إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمق يوماً بعد يوم، وهي ازمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون . إن تجسد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع – أو في الضفة فقط في هذه الاثناء – لم يساعد حتى اللحظة في حل ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ إِن تجسد السلطة الوطنية بدا وكأنه حل نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر قاطنو المخيمات منفى أبديا، أم تجنيسا أم توطينا أم تعويضا أم عودة مجزوءة. هذه الاسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوة، الأمر الذي يزيد من حدة وتطرف المسألة، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجىء – واللاجىء ليس مهاجرا ولا مغامرا ولا مستوطنا -، وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الهزائم والأزمات ثم التفتيت و الانقسام، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعُّذَّب وحُوصر، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقَْبل فيها إسرائيل وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم بوحله أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد ... شديد، وعلينا الانتباه!

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.