رأي

ذكريــــــــــــات لا مذكــــــــــــــــرات..

بقلم الشيخ كامل ريان – كفر برا


كانت الأيام الأولى من شهر أيلول/سبتمبر من العام 1981، حارّةً جدًا في مدينة بئر السبع. كانت الطرق ساخنة تكاد تغلي من شدة الحر، وكان الهواء جامدا لا يتحرك.. في أوائل الثمانينيات وبدون مكيفات هواء، لم يكن ممتعا أبدا العيش في المدينة الجنوبية. لكن ما أزعجني أكثر هو الخجل الكبير والأفكار التي راودتني بخصوص الطريقة التي سأبلغ بها والديَّ وأصدقائي عندما أدخل مع زوجتي فاطمة منزلي في قريتي كفر برا، خبرَ "طردنا" من وظيفتينا كمدرسين في النقب. جلست في الحافلة التي ستقلنا إلى تل ابيب ومنها الى كفر برا، أنظر إلى الناس المتعرقين الذين ازدحمت بهم ارصفة محطة الحافلات المركزية في المدينة. 


غادرت الحافلة المحطة بطيئة متثاقلة، وتحولت نحو اليمين لتندمج مع حركة السير في شارع "ريجر" الشارع الرئيسي في مدينة بئر السبع، ومنه إلى شارع 40 المؤدي إلى خارج المدينة في اتجاه تل أبيب. كان الهدوء هو سيد الموقف في الحافلة "الباص".. استوى كل راكب على مقعده مسترخيا يستعد لنومة خفيفة أو لقراءة جريدة. وَجَّهَ سائق الباص مؤشر الراديو إلى محطة "جيش الدفاع الإسرائيلي/جلاتس"، وبدأ يزيد من سرعة حافلته في اتجاه الشمال. في الجزء الخلفي من الحافلة، جلست انا وزوجتي، شابان في العشرينات من عمرنا، في مقتبل العمر، جلسنا بهدوء.. لبستُ حينها قميصا ابيض، ربما احتفالا بمناسبة بداية السنة الدراسية، او ربما للتخفيف من شدة حرارة النقب العربي.. جلست بالقرب من الشباك غارقا في التفكير، والسؤال حول ما إذا كان مكتوبا في قدري ان اعود إلى هذه المنطقة مرة أخرى كمعلم ام لا، يلح عليَّ إلحاحا شديدا! جَلَسَتْ زوجتي فاطمة إلى جواري تمسك بحقيبة يدها بكلتا يديها، وبصرها كاد يكون جامدا في اتجاه الفراغ الذي أمامها دون حراك.. ببساطة كانت صامتة تماما..


التصقتْ عيناي بزجاج شباك الباص كما لو كنت أريد ابتلاع جمال الطبيعة التي امتدت امامي بلا حدود، والمناظر التي تمر سريعة امام ناظري كما لو انها تهرب مني، أو كأني اهرب منها! كانت الرياح تعصف في وجهي عبر شباك الباص المفتوح، فتعبث في شعري وانا انظر في اكوام القش اليابس التي كانت الرياح تدحرجها أمام عيني في شكل كرات عملاقة، تماما كتلك التي كنا نشاهدها في المدن المتروكة في الغرب المتوحش..


رفعت يدي وفركت عينيي. "ماذا حدث؟" سألتني فاطمة.. أجبت: "يبدو ان حبات من الرمل دخلت في عيني".. واصلتُ النظر بصمت في المشهد الرتيب لصفرة رمال النقب الممتدة امامي، وللسيارات التي كانت تسير في الاتجاه المعاكس للحافلة في الممر المعاكس جنوباً نحو بئر السبع. نظرت زوجتي فاطمة إليَّ وقالت: بصوت هادئ: "كمال، لا تقلق، كل شيء سيكون على ما يرام إن شاء الله، سترى". نقلتُ بصري من زجاج الشباك نحوها وقلت: "أنا أعرف يا فاطمة."..


استمرت الرحلة في صمت، وأحيانًا نظرنا إلى بعضنا البعض دون أن نقول أي شيء.. لو قدر الله لأحد من أقربائنا وأصدقائنا ان ينظر إلينا ونحن على هذا الحال، لكان على يقين ان شيئا جللا قد وقع! حاولت أن أخفي عواطفي وأحاسيسي دون نجاح، فقد سَلَّمَنِي وجهي الذي لم يفلح في إخفاء ما يمور في النفس من أمواج متلاطمة، وما يُدَوِّي فيها من عواصف ورياح قواصف.. تحولت مرة أخرى نحو فاطمة، وهمستُ في اتجاهها:


"ما ذنبك انت؟! أنهم يبحثون عني.. يلاحقونني.. يضايقوني ويضطهدونني بسبب انتمائي للحركة الإسلامية.. اما انت، فما ذنبك في كل ما يجري؟!"..


قالت: "لا تقلق يا كامل، فنحن لم نرتكب أية جريمة. الله يرى ويسمع كل شيء، وسيساعدنا".


قلت: "ما الذي كان يمكن ان يحدث لو انهم سمحوا لكي بالاستمرار بالتدريس، فهم يعرفون أنك لا صلة لك بكل ما يجري."..

قالت في هدوء ووقار وسكينة: "أنا أعلم يا كامل.. هذا هو قدرنا، وسنمضي مع قدرنا هذا معاً، لأن الخيرة فيما اختاره الله سبحانه، فله – تعالى - في خلقه شؤون، وله فيما يجري حِكَم. لا تفكر في هذا الأمر بعد الآن. فقط أهدأ، فخلال بضع ساعات سنكون في البيت، وسنفكر في الحلول بهدوء.".


الحقيقة انني وبالرغم من كلمات زوجتي المشجعة، لم أستطع التحرر من ضغط مشاعري واحاسيسي الثائرة! لم تتقبل نفسي بَعْدُ "طردي" من وظيفتي كمعلم مخلص ومتفاني بهذا الاسلوب البشع وغير اللائق. لم أتوقع في أكثر احلامي كابوسية أن يصل بي الحال إلى هذه الوضع! لم أستطع الصمود أمام طوفان الغضب الذي اجتاح كل خلية فِيَّ، فظللت هائجا مائجا دون توقف رغم محاولاتي المتكررة إخفاء ذلك كله عمن حولي حتى عن أقرب الناس إلي في تلك الرحلة، زوجتي! عرفت نفسي، فأنا معلم جيد، ولذلك كانت المفاجأة بالنسبة لي صادمة إلى أبعد الحدود عندما تلقاني مدير المدرسة التي كنت اعمل فيها في اول يوم في السنة الدراسية، ليبلغني أنني لست في قائمة المدرسين في مدرسته لهذا العام. الحقيقة انني لم أستعد لهذا أبدا!! لم تساعد محاولات التوضيح، لم يكن لدى المدير القدرة على تغيير أي شيء.


طوال رحلتنا من بئر السبع إلى تل أبيب، كنت أحاول إعادة تركيب قطع هذا اللغز المحير، وتفكيك هذا الكابوس المزعج. حاولت ان أفهم ما مر عليَّ خلال ذلك الأسبوع الأول من أيلول 1981، بعد عودتنا من الإجازة الصيفية الطويلة! أغمضت عيني واسترجعت مرة أخرى محادثتي مع المفتش الإقليمي لوزارة التعليم في مكتبه في بئر السبع، واقتراحه بأن أسافر إلى القدس للقاء مسؤول كبير في وزارة التعليم، ومحاولة رجل الشاباك تجنيدي لأكون "واشيا" في خدمة الجهاز كشرط لإعادتي إلى سلك التعليم، وشعوري بالإهانة العميقة لمجرد سماع مثل هذا الهراء الذي فيه خيانة لمبادئي وقناعاتي ولشعبي.. ارتعد جسدي في تلك اللحظة اشمئزازا وتقززا واستياء ورفضا لهذا الجهاز الذي وصل الحال به إلى هذا الحضيض!


فتحت عينيَّ مرة واحدة وبقوة، في محاولة مني للتخلص من هذه الأفكار التي تسللت إلى رأسي.. ركزت مرة أخرى في جمال الطبيعة التي امتد أمامي لعلني اعوض به نفسي عما مر عليها من معاناة خلال الأسبوع المنصرم، بما في ذلك اللقاء مع المفتش، إلا أن شيئا لم يكن يستطيع أن يمحو ما في مخيلتي من هواجس وما في نفسي من غضب يزداد تأججا ساعة بعد ساعة! أخذت نفسا عميقا في محاولة أخرى للاسترخاء قليلا، ولكن دون نجاح.


بعد ان مرت الحافلة عن مفرق "بيت كاما" بمسافة قصيرة، شعرت بقطرات من الدمع تنزلق من عيني دون إرادتي.. نظرت فاطمة إليَّ في صمت، غير قادرة على العثور على الكلمات المعزية. كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها زوجها وهو يبكي.. شعرتْ بانها تغرق في بحر لُجِّيٍّ من الحزن والقلق والعجز عن عمل شيء. عرفتني فاطمة منذ عدة سنوات، وعرفت أنها تزوجت من رجل قوي ومعروف يعرف بالضبط ما يريد، رجل طموح، رغم أنه كان في أوائل العشرينات من عمره فقط. لكنها ظلت على يقين ان الايمان الديني العميق كفيل بأن يأخذ بيد صاحبه إلى شاطئ الأمان عاجلا او آجلا. لذلك كانت زوجتي فاطمة مطمئنة إلى ان دوام الحال من المحال، وأن الذي تراه امامها ما هو عارض طبيعي لن يصمد أمام الثقة بوعد الله بنصر المؤمنين وتفريج كرب المكروبين.


نظرتْ فاطمة إلى وجهي المائل قليلا نحو النافذة، في محاولة مني لإخفاء دموعي عنها، لكني كنت عاجزا رغم محاولاتي الجادة، من منع دموعي من الاندفاع بحرارة من عيني. لاحظتُ أنها كانت تتابع دموعي وهي تنزل من عيني لتنزلق على وجنتي ولتختفي أخيرا داخل لحيتي القصيرة. مددتُ يدي ومسحت لحيتي الرطبة.. فركت عيني الحمراوين، ونظرتُ إلى فاطمة بخجل وابتسمت في وجهها، وقلت:

"أنت على حق.. عليَّ ان اهدأ.. لكني لا أستطيع ان افهم لماذا عليك وعلى اهلي واحبتي، وخصوصا أبي وأمي الذين انتظروا طوال حياتهم ليروني معلما ناجحا، أن يعاقبوا على شيء لا ناقة لهم فيه ولا بعير؟!"...


أجابت فاطمة: "لا تتحدث كثيرا الآن، سوف نعود إلى المنزل ونقرر ماذا نفعل".


الطريق إلى تل أبيب ومن هناك إلى بيتح تيكفا (قرية مْلَبِّس العربية سابقا) وأخيراً إلى كفر برا، مسقط رأسي، بدا أطول بكثير من الطريق ذاتها التي سلكناها مرة كل أسبوعين خلال السنتين الأخيرتين الماضيتين واللتين امضيتهما اعمل مدرسا في مدرسة قرية "أبو قرينات" القريبة من مدينة "ديمونا"، وذلك بعد تخرجي كمعلم كبير من كلية إعداد المعلمين "هدار عام" في مدنية كفار سابا (كفر سابا العربية سابقا).. أقيمت المدرسة التي عملتُ فيها، لخدمة أطفال الشتات البدوي في النقب. لقد رأيت في عملي كمدرس وكمربي في المدرسة رسالة مقدسة، وليس فقط وظيفة اتكسب منها.. لقد استحق الطلاب في تلك المناطق النائية وشبه المنسية كل اهتمامنا وتقديرنا، ورأينا فيهم مستقبل تلك المنطقة التي أرادت إسرائيل لها ان تظل منقطعة عن العالم الخارجي.. شعرنا نحن المعلمين من أبناء الحركة الإسلامية حينها بِعِظَمِ الأمانة وثقل المسؤولية، فسخرنا كل طاقاتنا لتغيير واقع المنطقة وأهلها على هدىً من إسلامنا العظيم وديننا القويم.. شعرنا أننا سفراء للإسلام ولحركتنا الإسلامية في رحاب تلك الصحراء البكر، فعقدنا النية والعزم على القيام بمهمة الدعوة فيها بكل إخلاص وَهِمَّة، إلا ان الله شاء ان تسير الأوضاع في اتجاه آخر.. 

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.