سفر

رحلة سياحية الى اثيوبيا

الزهرة الجديدة هي الترجمة الحرفية لكلمة "أديس أبابا"، عاصمة إثيوبيا، وهنا تكتظ الحياة بكل شيء... فوسائل النقل سواء سيارات أو شاحنات أو دراجات نارية وحتى الناقلات العملاقة تسير جنبا إلى جنب مع البشر...أديس أبابا هي مدينة الحياة المتدافعة والمتداخلة.. أشجار الأوكالبتوس..التي يسمونها هنا "شجرة البحر" ويخبرونك بأنها وافدة من أستراليا عبر المحيطات والبحار- تكاد هذه الشجرة تغطي أجزاء كبيرة من المدينة بل وانتشرت في معظم أنحاء البلد.. وقد تمت زراعتها بكثافة في السبعينات من هذا القرن حلا لمشكلة نقص الحطب في ذلك الوقت .. تخرج صباحا لتشعر باليوم المتجدد.. أو تأتيها لأول مرة فتخرج من المطار إلى المدينة لتسير في شوارعها المأساوية...لترى جميع طبقات الشعب كألوانالقوس قزح (الريمبو).. مصوغة في قالب واحد .. فحين تجد صاحب السيارة الفارهة، تلتفت إلى جنبات الشارع لترى أيضا صاحب الحمير المصفنة وهي تجري بالتبن الذي تحمله على ظهرها وصاحبها يعدو خلفها.. وحين ترى الموظف الأنيق - يسمونه (جولي..) - ترى غير بعيد منه العامل البائس الكادح .. وترى العاطل البطال القاعد ... نواقيس الصلبان من الكنائس تدق الصباح الباكر وأحيانا مع الفجر...كأنما صلاة كتبت عليها ذلك الوقت.. مزاحمةً تغريد البلابل الشادية وشقشقة الطيور الصداحة .. "ماركاتو" ... وأديس أبابا هي مدينة "ماركاتو" فلا أحد يعرف "أديس" دون "ماركاتو"؟ يعرّفون "ماركاتو" هنا بأنه السوق الأبدي أو سوق "الكل يوم" وكلمة "ماركاتو" هي كلمة إيطالية.. ويعتبر هذا السوق أحد أكبر الأسواق الشعبية في أفريقيا، وهو سوق "الكل في الكل" .. فيه كل شيء. تزور سوق ماركاتو "أديس" بأكملها تقريبا... تعجب من كثرة البائعين المتجولين بالحلوى والمناديل وغيرها من الأدوات البسيطة التي لو وضعت في جيب واحد لما امتلأ.. وهم في كل الأحوال أحسن حالا من البطالين والمتسولين المتسكعين في الطرقات غدوا و رواحاً.. تشهد عيناك ذوي الاحتياجات الخاصة (الذين فقدوا بعض أعضاءهم) والمنتشرين في قوارع هذا الشارع أو ذاك .. يتوسلون إليك بكل ما أوتوا من بيان لإقناعك بأنهم يستحقون العطف، وترى العاملين في الأكشاك الصغيرة.. المعلقة هنا وهناك. هنا يحبون الموسيقى ويستمتعون بسماعها، خاصة في سيارات الأجرة، التي تراهم فيها يرددون كلمات الأغنية وهم يركبونها مع أجهزة التسجيل في التاكسي، وينزلون منها وهم يكملون كلمات الأغنية بأفواههم.. يستمعون من الفنانين لـ"أستير أوكه" و"محمد وردي" وايفريم" كثيرا. وهنا ترى الشعوب المختلفة واللغات المختلفة وعموما هي شعوب من المنطقة نفسها، تجمعت وسميت "بإثيوبيا" منذ زمن ليس بالبعيد الغابر.. هذا عدا اللغات المتباينة واللهجات فأديس مسرح حي لكل ذلك. وهنا يتغنون بحب الوطن ويجاهرون بسب الطبقة الحاكمة... أذكر الأغنية التي سمعتها في معظم سيارات الأجرة التي أقلتني: يا أمّ! يا إثيوبيا إني أحبك !!. أديس أبابا مدينة كبيرة من نوع العمالقة من المدن، يقطنها نحو 4 ملايين نسمة من مختلف القوميات فهنا الأمهرة، والأورومو، والتجراي، والصومال، والعفر، والغراغي.. وغيرهم الكثيروالكثير من الأعراق .. الغريب أن هذه العرقيات ليست من سلالة واحدة فمثلا حين ينتمي الأمهرة- 20%- إلى أصول حميرية سامية، فإن الأورومو - 40%- هم من أصول مختلطة حامية وسامية، وأديس هي أم حاضنة لجميع تلك الإثنيات على اختلاف لغاتها ولهجاتها، وعلى ذكر اللغات فإن اللغة الأمهرية هي المسيطرة باعتبار أن الأمهرة كانوا مسيطرين على البلاد لفترات طويلة أي منذ عام 1974من عهد "منليك" الثاني وإلى عهد هيلا سيلاسي الإمبراطور- ما يقرب من 100 سنة وسقط مع سقوطه حكمهم، ولكن لغتهم ظلت مسيطرة خاصة في العاصمة كمرجعية تفاهمية بين الناس مع أنها لم تستطيع الصمود في الأقاليم الأخرىمن البلاد ... خاصة أمام اللغة الأورومية.. هذه القومية "الأورومو" هي أكبر قومية في البلد ولكنها عاشت تحت حكم الأمهرة وعانت ما عانته لفترة قرن من الزمن.. وكما قال المؤرخ الإثيوبي الشهير /لابيسو/ أن الملوك هم أسباب المعاناة والاحتراب بين الشعوب الإثيوبية - المهم أن الأورومو استيقظوا مؤخرا.. ليجد أن الحكم خرج من يد هاومن يد الأمهرة على السواء.. ليقع في يد "التجراي" القادمين من أقصى الشمال وهم أقلية لا تتجاوز الـ10%. فهناك إلى جانب اللغة الأمهرية والأورومية التغراوية والعربية والعفرية والغراغية وقد أحصى معهد اللغات في جامعة أديس أكثر من ثمانين لغة مختلفة في البلد ككل.. وأكثر من مائتيلهجة... تأسست "أديس أبابا" الحديثة عام 1887م على يد منليكالثاني، هذا القول المشهور وهناك رواية أخرى مثيرة للجدل عن تأسيسها ومؤسسها.. صور منبع نهر النيل من أعالي هضبة الحبشة إثيوبيا تميزت بموقعها على هضبة الحبشة المعروفة باعتدال مناخها - مع ميلان للبرد- طوال فصول السنة لارتفاعها عن سطح البحر،وأديس وهي الواقعة وسط البلاد تقريبا، ترتفع 2450م فوق مستوى سطح البحر، مما جعل درجة الحرارة بها ما بين 15- 20 وقد تصل إلى 25 درجة مئوية.. ولا تزيد عن ذلك صيفا أوشتاء .. في سنة من السنوات وصلت درجة الحرارة 31 درجة نهارا فأصبحت حديث الناس..الأمطار هنا صيفية .. وقلما تسمع عن كوارث عظيمة حدثت بسببها في العاصمة، فتصريف المياه إلى الأودية يتم تلقائيا على شكل سيول بسبب طبيعة "أديس" المرتفعة والمتباينة التضاريسوذات الأودية في أطرافها وأحيانا في أوسطها، ويمكن القول بأن المياه تتجه إلى أوديتها سيولا بمحض حريتها، دون أن يدخل في ذلك تخطيط حكومي كبير.. كأي دولة من دول العالم الأخير.. الشمس هنا محرقة في النهار، مع برودة الجو.. لا تدري كيف يستوي هذان الضدان.. أما الليل فقارس البرودة على الدوام وأحيانا لدرجة الارتعاش.. شوارع العاصمة الأثيوبية كانت إلى عهد قريب تشكل مأساة..الحفريات التي تملأها..والكسور الإسفلتية- من جراء الأمطار المتتالية..هذه الشوارع أصبحت حديث الناس صباحاً ومساء..ولكن الشوارع تحسنت بشكل كبير، وبنيت جسور من طراز متقدم، وخاصة الطريق الدائري الذي دشن رسميا في يوليو- تموز 2002م، وهذه الإصلاحات التي استبشر الناس بها خيرا،جاءت بالتعاقد مع شركات أجنبية جاءت من الصين وألمانيا..أو إذا كنا صادقين أكثر فكانت هبة من تلك الدول.. ويبدأ الطريق الدائري من منطقة "بولي" وهي منطقة المطار ويسير بمحاذاة ضواحي المدينة وينتهي في جزأ منه في منطقة "أير طينا" يحيط بالمدينة كإحاطة الخاتم بأصبع اليد.. قد يتوه السائح بعض الشيء إذا أراد البحث عن الشوارع بأسمائها فليس هناك لوحات إرشادية كافية لأسماء الأحياء والشوارع.. لكن يفضل أن لا تنسى المعالم العامة ففي كل شارع معلم. أحياء المدينة مقسمة بطريقة الكثافة المتركزة في الوسط والتوزيع العشوائي المتناثر في الضواحي، فهناك هذه الأحياء التي هي عبارة عن كوم من البشر بعضها فوق بعض، والبيوت القصديرية من الأكواخ والأعشاش العشوائية المبنية بغير تخطيط، في قطاع من المدينة ثم البيوت المهندسة المخططة سواء المساكن الفردية أو مجمعات الفيلل أو العمارات والبنايات العالية، تكشف لك عن الازدواجية التي لم تكن أديس أبابا يوما بدعاً فيها عن دول العالم الثالث..أعني نظام الطبقات القاتل المعروف.. وهنا يشتكي الفقراء بأنه يتم هدم بيوتهم القصديرية أو المبنية بغير تخطيط متى شاءت الحكومة ذلك؛ ويشكون بالقول: نحن الأقدم هنا والبيوت تهدم لسواد عيون أصحاب رؤوس الأموال الكبار حديثي الوصول.. وقد يحالف الحظ من لم تكن مساكنهم في أماكن إستراتيجية.. فسيفساء الديانات الديانات تتوزع بين الإسلام. والمسيحية (الأرثوذكس والبروتستانت و قليلاً من الكاثوليك ووثنيون يعبدون الشجر والحجر والبشر في بعض الأحايين ونسبة صغيرة جدا من اليهود ).. غير أنك إذا زرت المتحف الوطني فإنك لن تجد أي معروضات تتحدث عن أي مظهر من المظاهر الأثرية للمسلمين أو تراثهم رغم أن نسبتهم أغلبية - لا ترى إلا قطع بسيطة من الملابس ومخطوطة واحدة، سواء في المتحف الوطني أو متحف الجامعة الضخم الذي كان في الأصل قصر الإمبراطور هي لاسيلاسى الشهير، معظم محتويات المتحف تتعلق بالملوك المسيحيين وبتراث قومية الأمهرة، وهناك إغفال صارخ بالنسبة لتراث القوميات الأخرى، ترى أيضا ما يتعلق بالكنيسة الحبشية القبطية، فهناك الصلبان والنواقيس والصولجانات ومخطوطات الإنجيل.. هزيمة الإيطاليين .. هنا يفتخرون بأنهم هزموا الإيطاليين حين دخلوا ولم يستطيعوا البقاء في أديس أبابا إلا خمس سنوات هزموا الإيطاليين في موقعة "أدوا " وطردوهم بعدها بالأسلحة التقليدية ويشرحون لك بأنهم خرجوا إليهم بالرماح والسيوف والبنادق القديمة مما اضطر الإيطاليين إلى اتخاذ قرار مغادرة البلاد.. لذلك بني - إحياء لتلك الذكرى - كاتدرائية للقديس جرجس سنة 1896م .. ومع الفترة البسيطة التي أقامها الإيطاليون في هذا البلد كان تأثيرهم بسيطا ولكن واضحاً في بعض المناحي كالأبنية والجسور والمطاعم ...الخ. آداب وفنون.. بما أن أديس تمثل تجمعا للعرقيات المختلفة فإن الملاهي والمسارح تقدم أشكال تمثل تلك العرقيات فهناك الفن الشعبي الذي يتجسد في الأغاني والرقصات الشعبية وهناك المسرح الذي يضم الأعمال الدرامية التقليدية الكلاسيكية لأكثر هذه العرقيات والتي يمثلها المسرح الوطني فيحي "بهراوي ثياتر" Ethiopian National Theatre كنائس ومساجد.. من يدخل هذه المدينة لأول مرة، يظن أنها دولة ذات ديانة واحدة، هي المسيحية.. وذلك لكثرة الكنائس ووجودها على نواصي أكثر الشوارع.. وتقارب مواقع الكنائس من بعضها في أحياء عامة وعامرة مثل منطقة "بياسا" Pissa . فهناك إلى جانب كاتدرائية القديس جرجس، ضريح الإمبراطور منليك الثاني، وكاتدرائية الثالوث، والكنيسة القبطية وكذلك الكاثوليكية لها ما يمثلها هنا.. وحسب مؤرخين وكتاب غربيين فإن مسيحيي هذا البلد من أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية، هذا بالنسبة إلى الأرثوذكس أما البروتستانت فعلى رغم أنها ديانة جديدة بالنسبة على إثيوبيا فإنها استقطبت كثيرا من أتباع الأرثوذكس... ولو سألت أرثوذكسيا عن رأيه في البروتستانت لقال إن المسلمين أقرب لهم من البروتستانت. مساجد أديس أبابا تتجاوز الــ 150مسجدا لكن أكبرها هو مسجد "الأنوار" الذي يقع في منطقة تسمى باسم "مسجد" وهذا الحي قريب من ماركاتو؛ السوق الشعبية".. ومع كثرة عدد هذه المساجد فإنك لا تجد إلا قليلا منها في أماكن مشرفة أو على شارع عام.. وقد لا تجد مساجد واضحة للعيان أصلاً إذا كنت ضيفاً جديداً على البلاد.. وهناك مسجد معروف هو مسجد "الرحمة" في حي "بياسا".. Piassa فنادق...و"خنادق أميريكان" في أديس.. الفنادق المشهورة هنا هي الفنادق المعروفة بأسمائها العالمية فهناك الهيلتون وهناك الشيراتون وتوج هذا الأخير عملية بناء الفنادق باحتلاله مركزا متقدماً على كثير من فنادق القارة الأفريقية.. حتى العالمية.. وهناك فندق غيون..وفندق إثيوبيا .. والكثير.. من الفنادق ذوات النجمة والنجمتين والخمسة .. هناك حي "أميركان كبِّي" أو سور أو خندق أمريكا- كان تصوري حين سمعت عنه لأول مرة أن هذه منطقة لمن هم في أعلى الهرم الاجتماعي أو منطقة للجاليات الأجنبية.. ولكن حين زرتها وجدت أن التسمية كانت تيمناً منهم ببعض أحياء نييورك أوشيكاغو ..التي ترى فيها الفقراء.. ومن سقطوا من أعلى الهرم الاجتماعي إلى قاعه...لا يسكن في "أميريكان كبي" إلا من تتوافر فيهم الشروط الأولية للفقر والمسكنة.. ومن لديهم القدرة على تحمل صرخات البائعين الجوالة.. وإزعاج بائعات الهوى..أو من لا يريد إرهاق نفسه بالمشتريات الباهظة الثمن...فكل شيء هنا أرخص من كل رخيص.."أميركانكبِّي" حي تستأجر الفنادق ليلة بأقل من ربع دولار..ولكن بشرط تحمل مشقة المبيت.. وأذكر إبريق الشاي الذي احتسيناه أنا وأصدقائي؛ إبريق شاي مع الحليب سعته أربعة فناجين بأقل من ربع دولار أمريكي.. هناك أسواق فارهة بعيدا عن الأسواق الشعبية الكبيرة، وتقع بعضها في حي "بولي" الحي الذي تعود السكان الفقراء بوسمه بالراقي، ووسم شبابه "بعيال بولي" اشتهر من أسواق "بولي" المركز التجاري Denbal city center مدينة السياحة.. تستقبل "أديس" السياح بالأحضان سواء كانوا من البعيد أو من القريب... من جميع القارات..غرب أو عرب.. ومع كثرة السياح الغربيين الذين يحلو للبعض أن يمنحهم وسام الجرأة وحب المغامرة؛ فإن السياح العرب قلة بل ندرة.. مصادر الجذب السياحي فيهذه البلاد كثيرة خاصة خارج العاصمة تشمل المواقع التاريخية والثقافية والأثرية والانثروبيولوجية والعلمية والمناخية والعلاجية والحياة البرية. وهي عناصر سياحية قلما تتجمع في دولة أفريقية أخرى. وإذا سافرت خارج العاصمة وهو أمر مغر فإنك تقبل على بلاد تجمع بين النجاد plateaus العالية، والسلاسل الجبلية الممتدة في الأفق ولمسافات طويلة،والقمم الشاهقة، والشقوق الأرضية والوديان العميقة، والبحيرات الواسعة كبحيرة "تانا" منبع النيل الأزرق، والأنهر الطويلة –في إثيوبيا أكثر من اثني عشر نهرا غير النيل - ، والشلالات الكبيرة، وينابيع المياه الحارة والكبريتية، ثم الأراضي السهلة المغطاة بالخضرة، والغابات الاستوائية وحشائش السافانا، والصحاري الشاسعة. وعلى كل الأحوال فإن الجو هنا مناسب للمصيف.. ويوفر على جيوب السياح الكثير.

الزهرة الجديدة هي الترجمة الحرفية لكلمة "أديس أبابا"، عاصمة إثيوبيا، وهنا تكتظ الحياة بكل شيء... فوسائل النقل سواء سيارات أو شاحنات أو دراجات نارية وحتى الناقلات العملاقة تسير جنبا إلى جنب مع البشر...أديس أبابا هي مدينة الحياة المتدافعة والمتداخلة..
أشجار الأوكالبتوس..التي يسمونها هنا "شجرة البحر" ويخبرونك بأنها وافدة من أستراليا عبر المحيطات والبحار- تكاد هذه الشجرة تغطي أجزاء كبيرة من المدينة بل وانتشرت في معظم أنحاء البلد.. وقد تمت زراعتها بكثافة في السبعينات من هذا القرن حلا لمشكلة نقص الحطب في ذلك الوقت ..
تخرج صباحا لتشعر باليوم المتجدد.. أو تأتيها لأول مرة فتخرج من المطار إلى المدينة لتسير في شوارعها المأساوية...لترى جميع طبقات الشعب كألوانالقوس قزح (الريمبو).. مصوغة في قالب واحد ..
فحين تجد صاحب السيارة الفارهة، تلتفت إلى جنبات الشارع لترى أيضا صاحب الحمير المصفنة وهي تجري بالتبن الذي تحمله على ظهرها وصاحبها يعدو خلفها.. وحين ترى الموظف الأنيق - يسمونه (جولي..) - ترى غير بعيد منه العامل البائس الكادح .. وترى العاطل البطال القاعد ...
نواقيس الصلبان من الكنائس تدق الصباح الباكر وأحيانا مع الفجر...كأنما صلاة كتبت عليها ذلك الوقت.. مزاحمةً تغريد البلابل الشادية وشقشقة الطيور الصداحة ..

"ماركاتو"
وأديس أبابا هي مدينة "ماركاتو" فلا أحد يعرف "أديس" دون "ماركاتو"؟
يعرّفون "ماركاتو" هنا بأنه السوق الأبدي أو سوق "الكل يوم" وكلمة "ماركاتو" هي كلمة إيطالية.. ويعتبر هذا السوق أحد أكبر الأسواق الشعبية في أفريقيا، وهو سوق "الكل في الكل" .. فيه كل شيء. تزور سوق ماركاتو "أديس" بأكملها تقريبا...

تعجب من كثرة البائعين المتجولين بالحلوى والمناديل وغيرها من الأدوات البسيطة التي لو وضعت في جيب واحد لما امتلأ.. وهم في كل الأحوال أحسن حالا من البطالين والمتسولين المتسكعين في الطرقات غدوا و رواحاً.. تشهد عيناك ذوي الاحتياجات الخاصة (الذين فقدوا بعض أعضاءهم) والمنتشرين في قوارع هذا الشارع أو ذاك .. يتوسلون إليك بكل ما أوتوا من بيان لإقناعك بأنهم يستحقون العطف، وترى العاملين في الأكشاك الصغيرة.. المعلقة هنا وهناك.
هنا يحبون الموسيقى ويستمتعون بسماعها، خاصة في سيارات الأجرة، التي تراهم فيها يرددون كلمات الأغنية وهم يركبونها مع أجهزة التسجيل في التاكسي، وينزلون منها وهم يكملون كلمات الأغنية بأفواههم.. يستمعون من الفنانين لـ"أستير أوكه" و"محمد وردي" وايفريم" كثيرا.
وهنا ترى الشعوب المختلفة واللغات المختلفة وعموما هي شعوب من المنطقة نفسها، تجمعت وسميت "بإثيوبيا" منذ زمن ليس بالبعيد الغابر.. هذا عدا اللغات المتباينة واللهجات فأديس مسرح حي لكل ذلك.
وهنا يتغنون بحب الوطن ويجاهرون بسب الطبقة الحاكمة... أذكر الأغنية التي سمعتها في معظم سيارات الأجرة التي أقلتني: يا أمّ! يا إثيوبيا إني أحبك !!.

أديس أبابا مدينة كبيرة من نوع العمالقة من المدن، يقطنها نحو 4 ملايين نسمة من مختلف القوميات فهنا الأمهرة، والأورومو، والتجراي، والصومال، والعفر، والغراغي.. وغيرهم الكثيروالكثير من الأعراق .. الغريب أن هذه العرقيات ليست من سلالة واحدة فمثلا حين ينتمي الأمهرة- 20%- إلى أصول حميرية سامية، فإن الأورومو - 40%- هم من أصول مختلطة حامية وسامية، وأديس هي أم حاضنة لجميع تلك الإثنيات على اختلاف لغاتها ولهجاتها، وعلى ذكر اللغات فإن اللغة الأمهرية هي المسيطرة باعتبار أن الأمهرة كانوا مسيطرين على البلاد لفترات طويلة أي منذ عام 1974من عهد "منليك" الثاني وإلى عهد هيلا سيلاسي الإمبراطور- ما يقرب من 100 سنة وسقط مع سقوطه حكمهم، ولكن لغتهم ظلت مسيطرة خاصة في العاصمة كمرجعية تفاهمية بين الناس مع أنها لم تستطيع الصمود في الأقاليم الأخرىمن البلاد ... خاصة أمام اللغة الأورومية.. هذه القومية "الأورومو" هي أكبر قومية في البلد ولكنها عاشت تحت حكم الأمهرة وعانت ما عانته لفترة قرن من الزمن.. وكما قال المؤرخ الإثيوبي الشهير /لابيسو/ أن الملوك هم أسباب المعاناة والاحتراب بين الشعوب الإثيوبية - المهم أن الأورومو استيقظوا مؤخرا.. ليجد أن الحكم خرج من يد هاومن يد الأمهرة على السواء.. ليقع في يد "التجراي" القادمين من أقصى الشمال وهم أقلية لا تتجاوز الـ10%.

فهناك إلى جانب اللغة الأمهرية والأورومية التغراوية والعربية والعفرية والغراغية وقد أحصى معهد اللغات في جامعة أديس أكثر من ثمانين لغة مختلفة في البلد ككل.. وأكثر من مائتيلهجة...
تأسست "أديس أبابا" الحديثة عام 1887م على يد منليكالثاني، هذا القول المشهور وهناك رواية أخرى مثيرة للجدل عن تأسيسها ومؤسسها..
صور منبع نهر النيل من أعالي هضبة الحبشة
إثيوبيا تميزت بموقعها على هضبة الحبشة المعروفة باعتدال مناخها - مع ميلان للبرد- طوال فصول السنة لارتفاعها عن سطح البحر،وأديس وهي الواقعة وسط البلاد تقريبا، ترتفع 2450م فوق مستوى سطح البحر، مما جعل درجة الحرارة بها ما بين 15- 20 وقد تصل إلى 25 درجة مئوية..
ولا تزيد عن ذلك صيفا أوشتاء .. في سنة من السنوات وصلت درجة الحرارة 31 درجة نهارا فأصبحت حديث الناس..الأمطار هنا صيفية ..
وقلما تسمع عن كوارث عظيمة حدثت بسببها في العاصمة، فتصريف المياه إلى الأودية يتم تلقائيا على شكل سيول بسبب طبيعة "أديس" المرتفعة والمتباينة التضاريسوذات الأودية في أطرافها وأحيانا في أوسطها، ويمكن القول بأن المياه تتجه إلى أوديتها سيولا بمحض حريتها، دون أن يدخل في ذلك تخطيط حكومي كبير.. كأي دولة من دول العالم الأخير..

الشمس هنا محرقة في النهار، مع برودة الجو.. لا تدري كيف يستوي هذان الضدان.. أما الليل فقارس البرودة على الدوام وأحيانا لدرجة الارتعاش..
شوارع العاصمة الأثيوبية كانت إلى عهد قريب تشكل مأساة..الحفريات التي تملأها..والكسور الإسفلتية- من جراء الأمطار المتتالية..هذه الشوارع أصبحت حديث الناس صباحاً ومساء..ولكن الشوارع تحسنت بشكل كبير، وبنيت جسور من طراز متقدم، وخاصة الطريق الدائري الذي دشن رسميا في يوليو- تموز 2002م، وهذه الإصلاحات التي استبشر الناس بها خيرا،جاءت بالتعاقد مع شركات أجنبية جاءت من الصين وألمانيا..أو إذا كنا صادقين أكثر فكانت هبة من تلك الدول.. ويبدأ الطريق الدائري من منطقة "بولي" وهي منطقة المطار ويسير بمحاذاة ضواحي المدينة وينتهي في جزأ منه في منطقة "أير طينا" يحيط بالمدينة كإحاطة الخاتم بأصبع اليد..
قد يتوه السائح بعض الشيء إذا أراد البحث عن الشوارع بأسمائها فليس هناك لوحات إرشادية كافية لأسماء الأحياء والشوارع.. لكن يفضل أن لا تنسى المعالم العامة ففي كل شارع معلم.
أحياء المدينة مقسمة بطريقة الكثافة المتركزة في الوسط والتوزيع العشوائي المتناثر في الضواحي، فهناك هذه الأحياء التي هي عبارة عن كوم من البشر بعضها فوق بعض، والبيوت القصديرية من الأكواخ والأعشاش العشوائية المبنية بغير تخطيط، في قطاع من المدينة ثم البيوت المهندسة المخططة سواء المساكن الفردية أو مجمعات الفيلل أو العمارات والبنايات العالية، تكشف لك عن الازدواجية التي لم تكن أديس أبابا يوما بدعاً فيها عن دول العالم الثالث..أعني نظام الطبقات القاتل المعروف.. وهنا يشتكي الفقراء بأنه يتم هدم بيوتهم القصديرية أو المبنية بغير تخطيط متى شاءت الحكومة ذلك؛ ويشكون بالقول: نحن الأقدم هنا والبيوت تهدم لسواد عيون أصحاب رؤوس الأموال الكبار حديثي الوصول.. وقد يحالف الحظ من لم تكن مساكنهم في أماكن إستراتيجية..

فسيفساء الديانات
الديانات تتوزع بين الإسلام. والمسيحية (الأرثوذكس والبروتستانت و قليلاً من الكاثوليك ووثنيون يعبدون الشجر والحجر والبشر في بعض الأحايين ونسبة صغيرة جدا من اليهود )..
غير أنك إذا زرت المتحف الوطني فإنك لن تجد أي معروضات تتحدث عن أي مظهر من المظاهر الأثرية للمسلمين أو تراثهم رغم أن نسبتهم أغلبية -
لا ترى إلا قطع بسيطة من الملابس ومخطوطة واحدة، سواء في المتحف الوطني أو متحف الجامعة الضخم الذي كان في الأصل قصر الإمبراطور هي لاسيلاسى الشهير، معظم محتويات المتحف تتعلق بالملوك المسيحيين وبتراث قومية الأمهرة، وهناك إغفال صارخ بالنسبة لتراث القوميات الأخرى، ترى أيضا ما يتعلق بالكنيسة الحبشية القبطية، فهناك الصلبان والنواقيس والصولجانات ومخطوطات الإنجيل..

هزيمة الإيطاليين ..

هنا يفتخرون بأنهم هزموا الإيطاليين حين دخلوا ولم يستطيعوا البقاء في أديس أبابا إلا خمس سنوات هزموا الإيطاليين في موقعة "أدوا " وطردوهم بعدها بالأسلحة التقليدية ويشرحون لك بأنهم خرجوا إليهم بالرماح والسيوف والبنادق القديمة مما اضطر الإيطاليين إلى اتخاذ قرار مغادرة البلاد.. لذلك بني - إحياء لتلك الذكرى - كاتدرائية للقديس جرجس سنة 1896م .. ومع الفترة البسيطة التي أقامها الإيطاليون في هذا البلد كان تأثيرهم بسيطا ولكن واضحاً في بعض المناحي كالأبنية والجسور والمطاعم ...الخ.
آداب وفنون..

بما أن أديس تمثل تجمعا للعرقيات المختلفة فإن الملاهي والمسارح تقدم أشكال تمثل تلك العرقيات فهناك الفن الشعبي الذي يتجسد في الأغاني والرقصات الشعبية وهناك المسرح الذي يضم الأعمال الدرامية التقليدية الكلاسيكية لأكثر هذه العرقيات والتي يمثلها المسرح الوطني فيحي "بهراوي ثياتر" Ethiopian National Theatre

كنائس ومساجد..

من يدخل هذه المدينة لأول مرة، يظن أنها دولة ذات ديانة واحدة، هي المسيحية.. وذلك لكثرة الكنائس ووجودها على نواصي أكثر الشوارع.. وتقارب مواقع الكنائس من بعضها في أحياء عامة وعامرة مثل منطقة "بياسا" Pissa . فهناك إلى جانب كاتدرائية القديس جرجس، ضريح الإمبراطور منليك الثاني، وكاتدرائية الثالوث، والكنيسة القبطية وكذلك الكاثوليكية لها ما يمثلها هنا.. وحسب مؤرخين وكتاب غربيين فإن مسيحيي هذا البلد من أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية، هذا بالنسبة إلى الأرثوذكس أما البروتستانت فعلى رغم أنها ديانة جديدة بالنسبة على إثيوبيا فإنها استقطبت كثيرا من أتباع الأرثوذكس... ولو سألت أرثوذكسيا عن رأيه في البروتستانت لقال إن المسلمين أقرب لهم من البروتستانت.
مساجد أديس أبابا تتجاوز الــ 150مسجدا لكن أكبرها هو مسجد "الأنوار" الذي يقع في منطقة تسمى باسم "مسجد" وهذا الحي قريب من ماركاتو؛ السوق الشعبية".. ومع كثرة عدد هذه المساجد فإنك لا تجد إلا قليلا منها في أماكن مشرفة أو على شارع عام.. وقد لا تجد مساجد واضحة للعيان أصلاً إذا كنت ضيفاً جديداً على البلاد.. وهناك مسجد معروف هو مسجد "الرحمة" في حي "بياسا".. Piassa

فنادق...و"خنادق أميريكان" في أديس..
الفنادق المشهورة هنا هي الفنادق المعروفة بأسمائها العالمية فهناك الهيلتون وهناك الشيراتون وتوج هذا الأخير عملية بناء الفنادق باحتلاله مركزا متقدماً على كثير من فنادق القارة الأفريقية.. حتى العالمية.. وهناك فندق غيون..وفندق إثيوبيا .. والكثير.. من الفنادق ذوات النجمة والنجمتين والخمسة ..
هناك حي "أميركان كبِّي" أو سور أو خندق أمريكا- كان تصوري حين سمعت عنه لأول مرة أن هذه منطقة لمن هم في أعلى الهرم الاجتماعي أو منطقة للجاليات الأجنبية.. ولكن حين زرتها وجدت أن التسمية كانت تيمناً منهم ببعض أحياء نييورك أوشيكاغو ..التي ترى فيها الفقراء.. ومن سقطوا من أعلى الهرم الاجتماعي إلى قاعه...لا يسكن في "أميريكان كبي" إلا من تتوافر فيهم الشروط الأولية للفقر والمسكنة.. ومن لديهم القدرة على تحمل صرخات البائعين الجوالة.. وإزعاج بائعات الهوى..أو من لا يريد إرهاق نفسه بالمشتريات الباهظة الثمن...فكل شيء هنا أرخص من كل رخيص.."أميركانكبِّي" حي تستأجر الفنادق ليلة بأقل من ربع دولار..ولكن بشرط تحمل مشقة المبيت.. وأذكر إبريق الشاي الذي احتسيناه أنا وأصدقائي؛ إبريق شاي مع الحليب سعته أربعة فناجين بأقل من ربع دولار أمريكي..
هناك أسواق فارهة بعيدا عن الأسواق الشعبية الكبيرة، وتقع بعضها في حي "بولي" الحي الذي تعود السكان الفقراء بوسمه بالراقي، ووسم شبابه "بعيال بولي" اشتهر من أسواق "بولي" المركز التجاري Denbal city center

مدينة السياحة..
تستقبل "أديس" السياح بالأحضان سواء كانوا من البعيد أو من القريب... من جميع القارات..غرب أو عرب.. ومع كثرة السياح الغربيين الذين يحلو للبعض أن يمنحهم وسام الجرأة وحب المغامرة؛ فإن السياح العرب قلة بل ندرة..
مصادر الجذب السياحي فيهذه البلاد كثيرة خاصة خارج العاصمة تشمل المواقع التاريخية والثقافية والأثرية والانثروبيولوجية والعلمية والمناخية والعلاجية والحياة البرية.
وهي عناصر سياحية قلما تتجمع في دولة أفريقية أخرى.
وإذا سافرت خارج العاصمة وهو أمر مغر فإنك تقبل على بلاد تجمع بين النجاد plateaus العالية، والسلاسل الجبلية الممتدة في الأفق ولمسافات طويلة،والقمم الشاهقة، والشقوق الأرضية والوديان العميقة، والبحيرات الواسعة كبحيرة "تانا" منبع النيل الأزرق، والأنهر الطويلة –في إثيوبيا أكثر من اثني عشر نهرا غير النيل - ، والشلالات الكبيرة، وينابيع المياه الحارة والكبريتية، ثم الأراضي السهلة المغطاة بالخضرة، والغابات الاستوائية وحشائش السافانا، والصحاري الشاسعة.
وعلى كل الأحوال فإن الجو هنا مناسب للمصيف.. ويوفر على جيوب السياح الكثير.
 






























يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.