رأي
wikipedia

شبهات وردود عشية انتخابات الكنيست 2019

بقلم: إبراهيم عبدالله صرصور


أنا متفائل حتى النخاع بطبعي.. تفاؤلي هذا نابع من ثقتي في وعد الله أكثر من ثقتي فيما في يدي.. وقد وعد سبحانه بأن وضع امتنا العربية والإسلامية لن يظل رديئا الى الابد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).. العكس هو الصحيح.. فالأصل في الامة ان تعيش شامخة عظيمة في كل شيء، والاستثناء ان تعيش ذليلة في حالة انحطاط هو ليس من طبيعتها، لكنه ثمرة مُرَّةٌ لخلل خطير يصيبها فيهدها من الداخل قبل أن يهدها اعداؤها من الخارج.. فإن هي تخلت عن القيام بدورها، وتخلت عن المهمة التي اختارها الله لها، كان الوعد الرباني الآخر بالتمكين عن طريق الاستبدال: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)، و (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ...


رغم تفاؤلي هذا تصيبني الدهشة في كثير من الأحيان من عمق الأزمة التي نعيشها كمجتمعات وشعوب عربية، حتى لكأننا نعيش جاهلية جديدة تحمل نفس سمات الجاهلية الأولى شتاتا وانحطاطا وتخلفا ومرضا وجهلا ودماء واشلاء وصراعا ونزاعا، حتى لكأني بها استقالت من التاريخ، بعد ان لم يعد لها مكانٌ تحت شمس الشعوب المتحضرة، ولا مكانة لها بين أمم الأرض المتقدمة!


فهل اوضاعنا هنا في الداخل الفلسطيني، وفي فلسطين المحتلة عام 1967، تختلف عن أوضاع امتنا، وأن الامراض التي أهلكتها لم تنتقل عدواها الينا حتى تكاد تفعل بنا ما فعلته بهم؟ !!..


تقول التجربة الإنسانية انه كلما تعرضت مجموعة بشرية الى طوفان من التحديات والمخاطر الخارجية، يزداد التصاق مكوناتها بعضها مع بعض

تقول التجربة الإنسانية انه كلما تعرضت مجموعة بشرية الى طوفان من التحديات والمخاطر الخارجية، يزداد التصاق مكوناتها بعضها مع بعض، وتقوى جسور التواصل بين أطيافها المختلفة، وتتعزز مساحات التفاهمات، ويتعمق الالتفاف حول "المشتركات"، وتتوحد الجهود في مواجهة المُلِمَّات.. هذا ما رصدناه في حياة الأمم الحية حول العالم، وهذا ما لمسناه في امتنا العربية والإسلامية وهي تخوض معركة التحرر الوطني من اندونيسيا شرقا الى المغرب غربا، ومن كازاخستان شمالا وحتى غانة جنوبا. خاضت شعوبنا معركة التحرر من سيطرة المستعمر لحمة واحدة، فكان لها النجاح وتحقق لها الاستقلال.. الا أن بوصلة الاستقلال هذا قد انحرفت لِتُحَوِّلَ بلادنا العربية والإسلامية (الا ما ندر) الى مستعمرات يحكمها مستعمرون لكنهم هذه المرة يتحدثون لغتنا، ويعيشون بيننا، ويحملون سمات وجوهنا، فسِيمَتْ شعوبنا عذابا أشد مما أصابها من المستعمر الأجنبي!!


أكثر الشعوب التي توقعْتُ ان تكون متعافية إلى درجة كبيرة من الامراض التي أصابت أخواتها من المحيط الى المحيط، هو الشعب الفلسطيني.. سبب ذلك، أن ما يواجهه هذا الشعب من تحديات وجودية بفعل الاحتلال الصهيوني الإحلالي، لا يتعرض لمثله غيره من الشعوب.. عليه، توقعت ان يكون أكثر الشعوب تماسكا ووحدة في جبهته الداخلية، وأقلها صراعا ونزاعا، وألصقها بالمشتركات وأبعدها عن المنغصات الوطنية.. الا ان الحقيقة – مع الأسف – غير ذلك تماما..


لن أتناول في هذه المقالة حال امتنا من المحيط الى المحيط، ولا وضع الشعب الفلسطيني في وطنه المحتل عام 67، لكني سأخصصها للحديث عنا نحن المجتمع العربي الفلسطيني الذين نعيش في وطننا تحت الحكم الإسرائيلي منذ العام 1948، ونحن نخوض معركة الوجود والهوية والحقوق في مواجهة حكومة يمينية متطرفة يقودها نتنياهو، والتي تمارس التصعيد اليومي تشريعا وممارسة بهدف تجريدنا من الشرعية التي منحتنا إياها الحقائق الدينية والوطنية والتاريخية والحضارية..


كيف من المفروض ان نواجه هذا التحدي النوعي في خطورته؟! هل نحن في الاتجاه الصحيح؟! هل نجحنا في صياغة وعينا الوطني بما يكفل إدارة ناضجة لمعركتنا في مواجهة سياسات التمييز العنصري والقهر القومي الإسرائيلية، في زمن تخل النظام العربي الرسمي عن دوره القومي وبدأ يمارس عمالة صريحة يمول خلالها دوره المشبوه بنفسه!! هل أثبتنا نحن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر أننا تعلمنا الدرس واستخلصنا العبرة، ولن نقع أبدا فيما وقع فيه أشقاؤنا الفلسطينيون والعرب والمسلمون؟!


لا شك ان مجتمعنا العربي الفلسطيني نجح الى حد بعيد في هزيمة المخططات الصهيونية 

لا شك ان مجتمعنا العربي الفلسطيني نجح الى حد بعيد في هزيمة المخططات الصهيونية التي سعت لشطب الرقم الفلسطيني من قاموس العالم، وتطور أداء هذا المجتمع عبر عقود سبعة مضت منذ قيام إسرائيل عام 1948، فعزز وجوده (الثبات على الأرض ورفض التهجير والترانسفير بأشكاله المختلفة)، ونَظَّمَ صفوفه (لجنة المتابعة العليا، اللجنة القطرية للرؤساء، منظمات المجتمع الأهلي، الأحزاب والحركات.. الخ)، وعزز وعيه وقِيَمَهُ الدينية والوطنية (ارتفاع نسب التعليم، نشوء التيارات الفكرية الاسلامية والقومية وفي قلبها تأسيس الحركة الإسلامية على يد الشيخ عبدالله نمر درويش رحمه الله – عام 1971، والتي كان لها دورها البارز على المستويين التوعوي والتعبوي.. الخ)، وانفتح على العالم الخارجي عربيا ودوليا (إقامة شبكة علاقات مع المنظمات الدولية الرسمية والشعبية)، وطور منظوماته المدينية والحضارية وحيزه المكاني (تطوير المدن والقرى قدر المستطاع، إقامة البنى التحتية الصناعية والتجارية.. الخ)..


إلا أن مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل إسرائيل، ورغم ما حقق من إنجازات معتبرة، فإنه ما يزال يعاني من اعراض الامراض العربية في مجالين حيويين اثنين. الأول، ضعف التماسك الداخلي واستفحال ظواهر العنف، وتراجع أثر المرجعيات المختلفة، وانتشار الثقافة الاستهلاكية، وتهتك المؤسسات المجتمعية ابتداء بالأسرة وليس انتهاء بالمؤسسات الوطنية محلية وقطرية.. الثاني، استفحال الخلافات الفكرية والسياسية الى درجة أصبحت فيها الوحدة الحقيقية بين مكونات المجتمع إسلامية ووطنية، ضربا من الخيال تقريبا..


استمرار حالة الانشقاق التي قادها الشيخان رائد صلاح وكمال خطيب منذ العام 1996

اما في الساحة الإسلامية فاستمرار حالة الانشقاق التي قادها الشيخان رائد صلاح وكمال خطيب منذ العام 1996، والتي تزداد اتساعا بسبب سياسة "الرفض" التي يمارسها قيادات وكوادر "الشمالية المنشقة" حتى بعد حظرها، لكل محاولات رأب الصدع وتوحيد الصف، وقلب الطاولة في وجه حكومة إسرائيل، وتعاملها المتعالي والفوقي، ورغبتها الجامحة في الهيمنة، وإدمانها الديماغوغية أداة فعالة للترويج لنزعاتها الانفصالية، وتعزيزها بتطرف بارز لثقافة الكراهية والتطاول على كل من يخالفها إسلاميا ووطنيا، ومحاولة احتكارها لكثير من مجالات الفعل الإسلامي والوطني، وانتهازيتها الصادمة على حساب الوحدة الجامعة والشراكة الحقيقية..


أما في الساحة السياسية عموما والبرلمانية خصوصا، فاعتبر الانتكاسة التي أصابت التجربة السياسية الرائدة عام 2015 من خلال إقامة "القائمة المشتركة"، والتي انتهت خلال مدة قياسية، أعتبرها دليلا على حضور نفس المرض الذي ما يزال يعرقل تقدمنا في اتجاه بناء سياسي قادر على مواجهة التحديات والمخاطر التي تشكلها حكومات إسرائيل منذ قيامها والى الآن!!


ظننت للحظة عندما أجمعت احزابنا العربية مدعومة بجماهيرنا قاطبة عام 2015، على إقامة القائمة "المشتركة" كإطار سياسي جامع، وكمحطة مفصلية رائعة في تاريخنا كمجتمع فلسطيني يعيش حالة من نوع خاص، وكنقطة تحول جلبت معها طوفانا توعويا اختزلنا به عقودا عجافا من التصحر السياسي والاجتماعي والوطني، مبشرا بمرحلة جديدة كأنما هي الميلاد من جديد، ظننت أننا مختلفون حقا عن كل العرق العربي والإسلامي.. قلت في نفسي، لعلنا نضجنا أكثر بسبب موقعنا المميز في الخندق الأول في مواجهة المشروع الصهيوني..


فرحنا جدا، لكن فرحتنا لم تطل..

أثبتنا – ويا للحسرة – أننا لا نختلف عن باقي العرب، بل ربما نحن أسوأهم.. وَأدْنَا مولودتنا "المشتركة" بأيدينا ولنفس الأسباب التي ضيعت الأمة، وضيعت فلسطين عبر تاريخا الطويل.. لم نتعلم الدرس.. لا نريد ان نتعلم الدرس..


كانت "المشتركة" هي الامتحان الذي سقط فيه أغلبنا الساحق ممن يؤيدون خوض الانتخابات البرلمانية، وممن يعارضونها.. الكل مارس بوعي دورا غريبا كرس حالة مرضية لا تجعلنا مختلفين عن الشعوب والانظمة العربية التي تحيط بنا، والتي تعيش نفس المأساة التي يخدم استمرارها أعداء الشعب والأمة على وجه الخصوص!


مع ذلك، فإن مفاوضات الشهر الأخير بين مكونات القائمة "المشتركة" انتهت إلى غير الحل الذي كنا نتمناه وهو تعزيز القائمة المشتركة والانطلاق بها نحو آفاق جديدة من تعزيز الوحدة وتعميق الإنجازات.. ما أفرزته التطورات أٌقل بكثير مما كنا نتمنى (استمرار المشتركة)، وأفضل مما كنا نخشاه (تفتيت المشهد العربي وعودته الى مرحلة ما قبل 2015)..


يبقى السؤال: لماذا نصر كمجتمع فلسطيني على الاختيارات المرة والصعبة، ضاربين بعرض الحائط كل الاعتبارات الموضوعية التي إن تجردنا في التعاطي معها لن تقودنا الا إلى نتيجة واحدة: لا بديل عن الوحدة كرافعة لأي عمل وطني ناجح في مواجهة التكتلات الصهيونية اليمينية المتطرفة؟!


(4)

حتى نتدارك ما يمكن تداركه بالرغم مما وقع على الساحتين الإسلامية والوطنية من انشقاقات وخلافات أذهبت ريحنا او تكاد، أذَكِّرُ الجميع بما قاله الشاعر احمد مطر وهو كما هو معروف من الشعراء الذين يعبرون عن الواقع العربي تعبيرا صادقا جدا، حول ظاهرة الانشقاق المقيتة في واقعنا الرديء:

أكثر شيئ في بلدتنا، الأحـزاب والفقـر وحالات الطـلاق..

عندنا عشرة أحزاب،

ونصف الحزب في كل زقـاق!

كلها يسعى إلى نبذ الشقاق..

كلها ينشق في السـاعة شقين، وينشق الشقان شـقين،

وينشقان عن شقيهما، من أجـل تحقيق الوفـاق ...!

جمرات تتهاوى شرراَ، والبرد بـاق..

ثم لا يبقـى لها إلا رمـاد الاحتراق ...!

لم يعد عندي رفيق رغـم أن البلدة اكتظت بآلاف الرفـاق!

ولذا شكلت من نفسـي حزب

ثم إني - مثل كل الناس -

أعلنت عن الحزب انشقاق..

**** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.