رأي

ذكريــــــات لا مذكــــــــــرات 4

بقلم الشيخ كامل ريان – كفر برا 

بدأت انا وزوجتي نزاول نشاطنا بشكل مكثف في حقل الدعوة الإسلامية في إطار الحركة الإسلامية، إلى جانب عملنا كمعلمين.. كان من عادة زوجتي ان تنطلق كل مساء بعد انتهاء عملها في المدرسة، لتلتقي بالنساء البدويات بهدف تعليمهن أسس الدين الإسلامي.. 


يومُ عملنا كان منظما ومبرمجا بدقة وبشكل ثابت تقريبا لا يتغير إلا في النادر.. في صباح كل يوم كنا نسافر إلى مدارسنا وممارسة مهامنا كمعلمين.. بعد انتهاء اليوم الدراسي، كنا نعود على البيت، نتناول طعام الغداء، نستريح لساعتين او ثلاثة، بعدها نبدأ يوم عمل من نوع جديد..


في كل مساء كنت أنسق مسبقا مع أحد الإخوة من أبناء القبيلة التي ننوي زيارتها من أجل أن يمر علينا في الساعة المحددة لأخذنا بسيارته. كان هنالك اجتماعان منفصلين في كل ليلة.. أحدها للنساء تتكفل زوجتي فاطمة بتدريسه والاشراف عليه. والثاني للرجال، اتكفل انا والاساتذة عمر صرصور وحمدالله عوض من كفر قاسم، وعبدالحكيم سمارة من الطيرة، وتيسير بدران من قرية عين السهلة بتدريسه والاشراف عليه بالتناوب.. تركز عملنا في تلك المرحلة في قبائل السَّيِّد والأعسم والهواشلة وعشيبة.


لم نكن نذهب إلى الرجال في بيوتهم، وإنما كان من عادتنا التوجه إلى شخصية مؤثرة في كل قبيلة، وفي الغالب كان ذلك زعيم القبيلة ومسؤولها الأول.. عندما يوافق زعيم القبيلة وكبيرها على اجتماع ديني من هذا النوع، كنا نرى اعدادا كبيرة من أبناء القبيلة يلتحقون باللقاء رغبة لا رهبة... لم نجبر أحدا على الحضور، بل على العكس فقد كان الاقبال طوعيا وبرغبة كبيرة لسماع الدروس والمحاضرات.


شعرنا بمدى تعطش الجميع لمعرفة المزيد عن الإسلام، كما ولمسنا منذ البداية الاستعداد الكامل لتطبيق ما يسمعونه من توجيهات في هذا الشأن. دليل ذلك، انه وخلال مدة قصيرة شعرنا بشبه ثورة في حياة الناس غيرت كثيرا من سلوكياتهم ومعاملاتهم، كما لمسنا الاقبال المتزايد على هذه اللقاءات التي كانت أشبه بِوِرَشٍ تثقيفية ميدانية مفتوحة..


لم نعد نستطيع وحدنا تغطية الطلب المتزايد لتنظيم هذه النشاطات في أرجاء النقب مترامي الأطراف.. فاتخذنا القرار بالاستعانة بالقيادات الدينية في منطقني المثلث والجليل البعيد..


أذكر اننا رتبنا زيارة مميزة وخاصة للشيخ عبدالله نمر درويش رئيس الحركة الإسلامية الذي وصل الينا في النقب بسيارة أجرة (تاكسي)، التقى فيها بنحو 40 من المعلمين الذين اجتمعوا في بيت جهزناه خصيصا لهذا اللقاء في مدينة بئر السبع.. ألقى الشيخ عبدالله في حشد المعلمين محاضرة رائعة وجذابة شَدَّت انتباه الجميع ونالت إعجابهم.. على المستوى الشخصي، لن أنسي تلك المحاضرة أبدا ما حييت.. كانت مميزة فعلا إلى درجة انها تركت أثرا تحدث عنه الجميع لفترة طويلة، وفتحت الباب على مصراعيه لمزيد من المحاضرات التي أقبل عليها المعلمون أيضا رغبة في معرفة المزيد عن الإسلام ورسالته الإصلاحية الرائعة والشاملة، التي تستجيب لحاجات الانسان العقلية والروحية والجسدية معا وبشكل متوازن وعبقري.


كان المجتمع العربي الفلسطيني البدوي في النقب مختلفا في عاداته وطباعه وطبيعة حياته عن منطقني المركز والجليل والمدن العربية المختلطة.. كان اغلب سكان النقب العرب يعيشون حياة بداوة بسيطة تفتقد إلى أبسط مقومات الحياة المدنية المستقرة..


شكلت القبيلة حجر الزاوية في البناء المجتمعي في النقب، ومركز الثقل الذي تدور من حوله حياة أبنائها في صغيرها وكبيرها.. صحيح ان هذا المجتمع القبلي قد ورث عبر مئات السنين كثيرا من العادات والتقاليد والأعراف التي لها ما لها، وعليها ما عليها، إلا ان الناس كانوا على الفطرة السليمة التي ضعفت لأسباب كثيرة من أهمها النكبة الفلسطينية وتهجير نخب هذا المجتمع كما حصل في سائر أرجاء فلسطين، وغياب المرجعيات الدينية والوطنية الرصينة، وشح مصادر المعرفة الاصيلة.. كان عدد سكان النقب العرب نحو مائتي ألف نسمة عشية النكبة، لم يبق منهم حينها سوى عشرة آلاف تقريبا أصبحوا اليوم (2018) نحوا من عددهم عند النكبة (200 ألف)..


كما كان لبعدهم الجغرافي عن منطقتي المركز والجليل والمدن المختلطة العربية، أثره السلبي أيضا على فرص تطور هذا المجتمع بالشكل المطلوب.. اما السبب الرئيسي وراء أزمات النقب وسكانه من العرب الفلسطينيين في تلك الفترة وحتى الآن، فقد كانت السياسة الإسرائيلية الممنهجة التي استهدفت سكان النقب من العرب في كل شيء تقريبا، في الأرض والمسكن والخدمات والتعليم وغيرها من مجالات الحياة الحيوية الرئيسية الهامة. أما الأخطر من ذلك كله، فكان سعي إسرائيل، مستغله هذا الظرف الموضوعي الذي عاشه سكان النقب العرب، إلى تنفيذ عملية للعرب من هويتهم الدينية والوطنية لمصلحة نوع من الأسرلة وحتى الصهينة، كان شعارهم في ذلك (البدو بدونا/هبيدويم شيلانو).. إلا أن فشل إسرائيل في تنفيذ مشروعها كان ذريعا وجاء مدويا..


كان لا بد لنا من ان نتعامل مع هذا الوضع بكل الحساسية والذكاء والحكمة حتى لا نزرع طريقنا إلى قلوب وعقول أهلنا في النقب بالألغام.. كان علينا ان نجري دراسةً علمية لطبيعة هذا المجتمع، وبحثاً ميدانيا يحدد نقاط الضعف والقوة فيه، ويضع الحلول الملائمة والمناسبة لاحتياجاته بناء على فقه الأولويات وفقه الموازنات..


كان يمكن للعلاقة بيننا كمعلمين من أبناء الحركة الإسلامية خصوصا، وبين أهلنا في النقب، ان تتعرض لانتكاسات بسبب مجموعة لا بأس بها من العادات والتقاليد المختلفة إلى حد كبير، إلا أن شيئا عظيما شَكَّلَ القاسم المشترك الأقوى والأعظم بيننا وبينهم، جعل طريقنا إلى قلوبهم وعقولهم مفروشة بالورود، إلى درجةٍ لم نكن نتوقعها على الاطلاق.. إنه الإسلام الذي لم يكن لأحد ان يختلف عليه، فهو السقف الذي يستظل به الجميع، والكهف الذي يأوي إليه الجميع، والمرجع الذي يطمئن إليه الجميع..


في البداية والنهاية فعرب النقب مسلمون والحمد لله، ولهم في الإسلام ما لغيرهم، بل لهم أكثر من غيرهم بحكم صلتهم بالسلف الذين حملوا الإسلام من الجزيرة العربية وزرعوا راياته في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية في فترة قصيرة وصفها مؤرخون غربيون ب – (الانفجار الكوني) الذي شَكَّلَ صورة المجتمع البشري من جديد على أسسٍ جديدة اعادت الحياة إلى الحياة..


كان لا بد من تذكيرهم بماضيهم العريق، ومكانتهم الرفيعة في تاريخ الإسلام، وانه ليس من سبب يمنعهم من استرداد هذه المكانة إلا ان يرفعوا راية الإسلام من جديد كمنهاج كامل وشامل للحياة يقدمونه على كل ما سواه، وعلى كل ما يخالفه من موروث مهما كان..


أعتَرِفُ انه لم يكن لدينا نحن الذين جئنا إلى منطقة النقب من المثلث والجليل، فكرة متكاملة عن طبيعة هذه المنطقة، وطبيعة عاداتها وتقاليدها، وطبيعة اهتمامات أهلها، إلا قليلا.. كانت هنالك بعض التخوفات المشروعة، فكل مجتمع جديد قد يفاجئك بما لا تتوقع، ولذلك كان لزاما علينا أن نحسب كل حركة من حركاتنا وكل خطوة من خطواتنا بميزان دقيق، بعد ان حددنا الهدف والوسائل، وأقمنا علاقات مع ثلة مباركة من الشباب العربي في المنطقة كانوا لنا خير عون على القيام بمهمتنا على الوجه الأحسن..


الحق، والحق أقول، كانت ردودُ فعلِ الغالبية الساحقة من أهلنا في النقب إيجابية إلى أبعد الحدود، بل وأكثر مما توقعنا.. كأن المنطقة كلها كانت على موعد رسمته مشيئة الله سبحانه، مع انوار الحركة الإسلامية وبركاتها، وما حملته من رؤية إسلامية رصينة وناضجة اعادت الحياة من جديد لمنطقةٍ أُريد لها ان تعيش في ظل كابوس الظروف التي تفرضها الصحراء وطبيعتها القاسية من جهة، والتصحر الفكري والحضاري الذي عملت حكومات إسرائيل المتعاقبة على فرضه على سكان النقب العرب منذ النكبة في العام 1948من الجهة الأخرى..


نجحنا خلال مدة قياسية في اختزال الكثير من المراحل بسبب التجاوب منقطع النظير الذي لقيناه من الغالبية الساحقة من أهلنا في النقب.. تهاوت الحواجز النفسية وامتدت جسور الاخوة الإسلامية من فوق مساحات الاختلافات التقاليدية والعُرفية، وَسَرَتْ روحٌ جديدة تخيلنا معها وكأننا نعرف المنطقة وأهلها وتعرفنا، منذ امد بعيد.. عرفنا حينها فعلا لا قولا فقط معنى قول الله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).. إنه الفعل الرباني قبل أي شيء، الذي جعل المستحيل ممكنا.. عاشت قبائل العرب عشية بعثة الرسول الاكرم عليه السلام على صفحة صحرائهم القاسية والمترامية الأطراف ظروفا استحالت معه أية فرصة لتغيير يجعل من هذا الشتات الممزق أمة واحدة، ومن تلك الهشاشة الفكرية والسياسية والحضارية والمدنية، قوة ستغير قواعد اللعبة على مستوى العالم وستصوغ صورته من جديد.. إنها عبقرية الإسلام التي ما إن تلامس شغاف القلوب البريئة والطاهرة والفِطَرِ السليمة، إلا وتسري فيها روحٌ تحييها بعد موات، وتنير جنباتها بعد ظلمات..


كانت استجابة أهلنا في النقب فوق التوقعات كلها.. كنا - نحن معشر شباب الحركة الإسلامية من المعلمين الجدد - الجيل الأول الذي وصل المنطقة يحمل رسالة هي في الأصل هوية المنطقة وهوية أهلها.. تحدثنا إليهم بكل صدق وإخلاص ومحبة.. لم يكن ذلك تمثيلا، لذلك كان التجاوب منقطع النظير منذ البداية لدرجة اننا لم نواجه أية إشكاليات جدية، وكأن هنالك من أَعَدَّ المنطقة وأهلها لاستقبال النور.. إنه الله سبحانه، وتوفيقه الذي كان رفيقنا طوال مشوارنا الذي بدأ يومها نهاية سبعينات القرن الماضي وما زال يعطي أكله كل حين بإذن ربه حتى يومنا هذا.. ببساطة، كان وصولنا إلى منطقة النقب في الوقت المناسب تماما.. 


 *قيادي في الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

**** الرئيس السابق ل - "جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات الإسلامية" في الداخل الفلسطيني 

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.