ذات ليلة ، ذات جرح ، تقطعت الحبال ، وانهارت الأجراس من فوق كنائس الشرق الحزين ، وتهاوت الإيقونات ،  وانبلج صباح الأحد الحزين ، يهبط من جديد فوق جسدي المتوجع مثل طائر اغتالته رصاصة ألأوغاد.

أنه الجرح هناك ، يسكن في الشرق المتألم ، شاسع كالليل ، تتسرب من شقوقه قطرات دم ، تفوح منها رائحة البارود ، وأجراس الكنائس المتبقية المنكوبة باتت تقرع على إيقاع أصوات القنابل والصواريخ ، تهز حجارتها القديمة ، وأيقوناتها الحزينة ، ودموع ما تبقى من حجارتها الحية .. لقد أحترق الشرق على أيدي داعش وأخواتها ، التي ما زالت تحول زيتوننا وبلوط مشرقنا إلى توابيت خشبية ترافقنا دربنا الأخير للحياة الأبدية ، ليخرج الجرح عارياً أكثر وقد أزداد عمقاً ونزفاً ..

المكان هو القاهرة والزمان صباح يوم الأحد, المشهد ذاته بات مشهدًا مألوفا، وقائمة الضحايا تضاف اليها أرقام جديدة، وأمامها أسماء جديدة , يوحنا أو مريم أو بطرس أو جرجس وفي خانة الملحوظات سجل : براءة طفل مسيحي صغير، لم تضمه أمه بل ضمه القبر ,وفي الكنيسة ومدرسة الأحد سجِّل غيابا أبديا ، واكتب سبب الغياب ،أسلامي داعشي مجرم وإرهابي قذر فجر نفسه داخل الكنيسة البطرسية في العاصمة المصرية – القاهرة .

ها مريم تسلك مع عائلتها صباح الأحد طريقها نحو الكنيسة البطرسية ، ها هي تسلك الطرقات الأكثر حزناً وعزلة ، وكأنها تودعها ، تزفها عروساً للسماء ، وشمس الصباح تغمرها ، تودع أخر خيط فجر شمس بارد أنكسر عند دخول مريم الكنيسة ، وكعادتها توجهت مباشرة نحو تمثال العذراء مريم الواقع بمنتصف الكنيسة ، جثت على ركبتيها ، مقدمة للعذراء مريم وردة حمراء جميلة وتمتمت بصوت خافت : إليك الورد يا مريم ، أرجوك يكفي هذه الكآبة في شرقنا ، القتل والدمار مؤذ يا سيدة النور .... لم تكمل مريم صلاتها ، وقع انفجار مدوي ، وانطفأت في ذلك الصباح أضواء الكنيسة وأغلقت الأبواب ، وانحدرت الملائكة نحو فراغات السواد ، فاتحة كل أبواب السماء ، مريم نامت بهدوء ، ذهبت ولم تلتفت وراءها ، ذهبت لمن هو أعظم شأناً ، انطفأت مريم وهي تعطي الحياة ، وقتل بولس راكعاً لرب المجد ، تقطع يوحنا وهو يخدم الهيكل المقدس.

إن قصة المسيحيين والأقليات ومعاناتهم من الفكر الإرهابي وأيدلوجياته ، ليست وليدة اليوم ، بل إن أجداد والإباء المؤسسين لفكر داعش قد أقدموا في الماضي على توجيه ضربات مؤلمة وموجعة للوجود المسيحي في العراق وتركيا والشام والأراضي المقدسة منذ بداية القرن العشرين حيث أبادوا الملايين من المسيحيين في المذابح الدموية و عمليات التصفية العرقية ، وتلتها القاعدة التي لم تبقي للمسيحيين في الشرق أي قاعدة ، حتى ظهور دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام ، التي خيرت المسيحيين بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الرحيل وإلا لكان مصيرهم الذبح والقتل ، هي تلك الدولة الإرهابية الداعشية ، التي راحت تمتص تاريخنا المسيحي عبر تدميرهم لجغرافيتنا ، والقضاء على كل ما يدل و يشهد على أن المسيحيين ملح هذه الأرض المشرقية ، أبناءها الأصلين ، وأصحابها منذ فجر التاريخ ، فحولوا الشرق إلى مناطق منكوبة ، مساجد وأديرة وكنائس مهدمة ،بيوت مهجورة ، صلبان منكوسة ، كنوز حضارية نفيسة مبعثرة ، قبور وأضرحة دنسها حقدهم ، مبان ومؤسسات كنسية ودينية ترفرف فوقها الإعلام السوداء لدولة الخلافة ، تكبير فوق الرؤوس وقطعها ، اغتصاب وسبيّ النساء الإيزيديات ، وإرغام المسيحيات على لبس الحجاب ، والإعدامات الغامضة والتضييق الذي طال حتى المسلمين أنفسهم.

لم تكن جراح المسيحيين من هذا الشرق تندمل حتى تعرضت المسيحية المشرقية لعملية تفجير جديدة بشعة في الكنيسة البطرسية في القاهرة ، حيث بدأت أشعر أن الشرق يصغر داخل قبضة أوغاد داعش بحد سيفهم البائد ، أولائك أتباع الدولة في العراق والشام ، أولائك الذين يتبعون أوهام الخلافة التي قسمت المتشددين لحركات وتنظيمات تحت مسميات مختلفة ، وعقائد متشابهة ، قد نجحوا في إعلاء النموذج الديني المشوه الذي طغى أمام العالم أجمع بدلاً من نموذج الحقيقي للإسلام المعتدل ، وها نحن نجد الدواعش يؤمنون بشرعيتهم الخاصة وبكل ما فيها من تراث مهشم واحتيال على الأخلاق والقيم والدين ، تحت ستار التقاليد والعادات البالية ، وكل ما فيها من علاقات عابرة تحت ستار الشرعية ، فأن أعمال الدواعش القذرة في الشرق والعالم تخبرنا أنهم حقاً أبناء جهاد النكاح ، ومراضعهم ملوثه بالوهم والغباء ، وأسيادهم أمثال أبو بكر البغدادي الوغد وكل متشرب لهذا الفكر الحقير ، يحقنونهم بجرعات كافية من الانحطاط الأخلاقي ليكونوا حاقدين على أبناء وطنهم ، وجلدتهم وحتى عائلاتهم.

بعد أيام معدودة يستقبل المسيحيين عيد الميلاد المجيد ، وما زال تنظيم داعش يحتل أراضينا و يعيث فيها فساداَ ، و نزيف الهجرة ينخر جسد المكونات المسيحية المشرقية ، لذلك فها أنا أحمل رسالة لإخوتي في الدول العربية حيث لا مكان لسيادة القانون والفاقدة للأمن والاستقرار ، حيث يتعرّضون فيه للتهديد والذبح ولتدنيس المقدسات .... صونوا كرامتكم ، صونوا عرضكم ، وحافظوا على بيوتكم وأملاككم وكنائسكم ، حافظوا على شرقيتكم ، حافظوا على وجودكم ، لأن وجودكم مقاومة بحد ذاته ، إذ ليس الرد على التكفيريين بالهجرة ، بل بالصلاة والصمود والثبوت وإذا لزم الأمر امتشقوا السلاح ودافعوا على وجودكم.

بعد هذا الظلام ، بعد هذه البشاعة ، بعد هذا القحط ، سينبت الورد بنزف شهداء المسيح ، وسيبزغ الفجر من جديد ولن يدوم الكرب والظلام ، وستُسمعُ تراتيل الميلاد ، في الشام ومعلولا والكرك والقاهرة وأورشليم وميونخ وباريس والموصل ونجع حمادي وفي كل بقاع الأرض ، تبشر بولادة طفل المغارة يسوع ، وتنشد لابتسامات الفقراء والأطفال والمضطهدين ، نقول لداعش وأخواتها وكل متشرب من هذا الفكر المريض .. إننا ها هنا باقون ، باقون في الشرق كأشجار الزيتون .. باقون ندق أجراس كنائسنا الصامدة ، نعزز حضارتنا ، وجودنا ، وتاريخنا ، وسنكون شاهدين على اندثاركم القريب.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.