"تعلمت على مدى السنين أن ما يبدأ بدموع انفعالية ويتمسك بحبال الانبعاث، لا ينتهي دائما بشكل جيد"

في بداية نيسان 2011 اتصل بي صديق وهو صحفي اجنبي، من ميدان التحرير. وقف وراءه عشرات آلاف المتظاهرين الذين طالبوا بإسقاط نظام مبارك وإنشاء نظام ديمقراطي في مصر. وهو لم يستطع السيطرة على نفسه من شدة الانفعال. فهو يقوم بتغطية اخبار الشرق الاوسط منذ سنوات ولم يسبق له أن رأى مشهدا كهذا: المصريون يتدفقون بأعداد كبيرة إلى الميدان ويقفون أمام الجنود المسلحين وأمام الدبابات والمدرعات ويصرخون مطالبين بالحرية.

لقد حاولت التخفيف من انفعاله لأنني كنت أخشى عليه وأيضا لأنني كنت أحسده – المصريون في ذلك الحين رفضوا اصدار تصاريح لدخول الصحفيين الإسرائيليين – ولأنني تعلمت على مدى السنين أن ما يبدأ بدموع انفعالية ويتمسك بحبال الانبعاث، لا ينتهي دائما بشكل جيد.
العالم يصمت، كما تقول العناوين، مثلما تقول دائما أمام الصور الفظيعة من المواقع الدامية في الكرة الارضية. قلنا إن العالم صامت وتزعزعنا، والآن سنتحدث عن طول تنانير مساعدات اعضاء الكنيست. والحقيقة هي أنه أمام ما يحدث في سورية لا أهمية للاقوال الكبيرة. العالم (أي العالم الغربي الحر المتنور: من يشتكي من ضمير العالم لا يقصد النظام في ايران ولا بوتين)، غير صامت. فهو محرج ومشوش وفي أزمة عميقة، أخلاقية وسياسية، حيث أن الشلل في سورية هو أحد التعبيرات عن ذلك. التقسيم المعروف بين يسار ويمين، حمائم وصقور، انفصاليين واندماجيين، لم يعد صالحا، وكذلك التقسيم بين المستقيمين والمتلونين. الرياح السيئة للقرن العشرين، العنصرية، الانغلاق القبلي، الاصولية الدينية، تأييد القوة والتعطش للدماء عادت لتهب من جديد. إنها تهب ليس فقط في سورية، بل أيضا في أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل.
بالمناسبة، كم يمكن للعالم أن يكون متنورا عندما يكون المنتخب هو دونالد ترامب والسياسية الصاعدة هي مارين لوبين.
لقد تصرفت إسرائيل بشكل صحيح حينما قلصت تدخلها في الحرب السورية إلى الحد الأدنى، الامر الذي ينبع فقط من مصالحها. ومعروف القول إن عدو عدوي هو صديقي. وفي الحرب السورية كل الاطراف هي أعداء معلنة لنا – العدو وعدو العدو وعدو عدو العدو. إن أي عمل علني لإسرائيل لم يكن لينقذ سورية، لكنه كان سيورطنا في مغامرة عسكرية كارثية. نتنياهو لم يذهب إلى هناك، ولغته حربية، لكن الاصبع لم تضغط على الزناد. وبسبب ما لم يفعله في سورية فهو يستحق المديح.
ليس مثلما في الأفلام
الطريق إلى جهنم كانت مرصوفة بالنوايا الليبرالية الحسنة. يمكن بدء قصة سورية التراجيدية قبل الربيع العربي بسنة ونصف، في خطاب الرئيس اوباما في جامعة القاهرة، الذي طالب فيه الشباب في العالم العربي بالتمرد على الواقع الصعب الذي يعيشون فيه. وليس الخطاب هو الذي أشعل التمرد، وإنما كانت هناك اسباب اخرى، لكنه علمهم الطريقة الساذجة والبسيطة التي يعاني منها الأميركيون عندما يتوجهون لعلاج منطقتنا.
يمكن العودة إلى الوراء أكثر، إلى دخول العراق في آذار 2003. في حينه أسقطت الولايات المتحدة نظام صدام حسين وفككت الجيش العراقي وفتحت بذلك اماكن الهلال الخصيب أمام القاعدة وداعش وايران وروسيا. وعندما قمت أنا وشمعون شيفر باجراء مقابلة مع الرئيس بوش في البيت الابيض قبل انتهاء ولايته بشهر ونصف، وعدنا أن التاريخ هو الذي سيحاكم دخوله إلى العراق بشكل ايجابي. ويبدو أنه بعد مئات آلاف القتلى واللاجئين والمشردين وعشرات مليارات الدولارات التي تم إهدارها سدى وموجة الإرهاب الإسلامي العالمي، فإن التاريخ قد قال كلمته.
في هذا الاسبوع، عندما سقطت حلب، التي هي تل ابيب بالنسبة لسورية في أيدي تحالف الأسد، اشتكى الكثيرون في العالم وفي البلاد من أن الغرب برئاسة الولايات المتحدة واوباما وقفوا صامتين. الصور ذكرتنا بمشاهد فظيعة من حروب الماضي: الشوارع مدمرة، قوافل اللاجئين، جثث الاولاد التي تم اخراجها من تحت الانقاض وصراخ النساء. وهناك من قارن بين ما حدث في سورية وبين كارثة يهود أوروبا.
الحروب الاهلية تتسبب في العادة بخسائر كبيرة في اوساط السكان المدنيين. وهذا ما يحدث عادة حين يحارب الشخص أخيه، وهذا ما سيحدث عندما تكون القوى العظمى الخارجية متدخلة في الحرب. الحرب الاهلية في إسبانيا، التي استمرت ثلاث سنوات، بين 1936 – 1939، أودت بحياة نصف مليون شخص على الأقل. وهذا هو الثمن المتوقع لقتلى الحرب في سورية، وحلب ليست النهاية. من بين سكان يبلغ عددهم 20 مليون نسمة فان 5 ملايين غادروا سورية وهم يعيشون كلاجئين: العبء ينقسم بشكل متساو بين تركيا ولبنان والاردن، وبعض اللاجئين وصلوا إلى اوروبا، و5 ملايين مشرد سوري يعيشون في سورية.
لكن الوضع على الارض أكثر تعقيدا مما تقوله الصورة. سألت في هذا الاسبوع مصدرا استخباريا غربيا، هل تبدو حلب كلها مثل الافلام التي تصل من هناك. وأجاب سلبا. الاحياء في الطرف الشرقي من المدينة التي كانت ساحة للمعارك، تم تدميرها بقصف روسيا بشكل كامل. والطرف الغربي تضرر بشكل أقل. وأيضا الطرف الذي كان يسيطر عليه المتمردون فيه احياء ما زال وضعها معقولا.
كم عدد المواطنين الذين أصيبوا اثناء السيطرة. سألته. هناك مصلحة للطرفين في المبالغة بأعداد الضحايا، قال. المتمردون ارادوا جلب المساعدة من الخارج، ونظام الأسد أراد اثارة الخوف لدى السكان.
هل قصفت روسيا المدينة بدون تمييز. سألته. ليست هناك حتى الآن معطيات عن الاسابيع الاخيرة، قال. في الموجة السابقة على مدى ثلاثة اسابيع من القصف سجلت 1500 طلعة جوية لسلاح الجو الروسي. 80 – 90 في المئة من الاصابات كانت في خطوط الاحتكاك وفي نقاط محددة في مناطق سيطرة المتمردين، ولم يكن هناك قصف أفقي.
هل الأنباء حول المجزرة الجماعية ضد السكان صحيحة. سألت. الكثير من القتلى هم من النساء والاطفال، قال. ولكن لا توجد معلومات في الغرب عن أوامر واضحة من اجل الاضرار بالسكان المدنيين.
الطرف الذي حسم
نقطة الانعطاف في الحرب السورية حدثت قبل ثلاث سنوات في ايلول 2013. الخط الاحمر الذي وضعه اوباما كان استخدام السلاح الكيميائي. وعندما تبين أن الأسد يستمر في قصف أبناء شعبه بالغاز، فان مصداقية اوباما خضعت للاختبار. هل سينجر إلى الحرب بعكس ارادته؟ بوتين تطوع بالمساعدة. فقد فرض على الأسد الموافقة على اخراج السلاح الكيميائي من سورية برعاية روسيا.
لقد تم تنفيذ الاتفاق، لكن أهميته لم تكمن في التخلص من السلاح الكيميائي، بل في التغيير التاريخي لمكانة روسيا في المنطقة، حيث نشأ تقاسم عمل بين القوتين العظميين. فقد ركزت الولايات المتحدة على المساعدة في الحرب ضد داعش، ويشمل ذلك القصف الجوي والتزويد بالسلاح وتسليح وتدريب الجيش العراقي ومنظمات المعارضة والبيشمرغة الكردية. وليس من الصحيح القول إن الولايات المتحدة قد وقفت على الحياد. فقد استثمرت حتى الآن في الحرب ضد داعش أكثر من 10.5 مليار دولار، غالبيتها في العراق والجزء القليل في سورية. وقد كان أحد أهداف القصف الأميركي في سورية هو مواقع النفط التي يسيطر عليها داعش.
روسيا ركزت على محاربة المتمردين السوريين، والأميركيون لم يتدخلوا – هذا هو الثمن الذي دفعه اوباما مقابل الاعفاء الذي منحه إياه الروس. وعمليا، فقد منح بوتين القوة لحسم الحرب الاهلية. وهو بطريقته الفظة قام بالحسم.
لقد استمرت السيطرة على حلب أقل من شهر، من منتصف تشرين الثاني وحتى هذا الاسبوع. القوات التي تتشكل من وحدات جيش الأسد والمليشيات السورية التي تؤيد النظام دخلت في منتصف تشرين الثاني إلى الجزء الشرقي من المدينة وقسمت مناطق سيطرة المتمردين. وروسيا قصفت من الجو. وسلاح الجو الذي شارك في الحرب لم يكن كبيرا. قوات ايرانية قليلة، وحدات من حزب الله ومليشيات شيعية تحت رعاية ايران عملت في محيط المدينة. وكانت احدى مهامها هي تعويق السكان الذين حاولوا الهرب من المناطق التي يتم قصفها.
المليشيات الشيعية التي احضرها الايرانيون إلى سورية هي قصة بحد ذاتها. فهي تتكون من باكستانيين وافغانيين جاءوا إلى ايران كلاجئين. وهي تشمل الآن أكثر من 10 آلاف مقاتل. وهذه قوة عسكرية حقيقية. وقد قام الايرانيون بتجنيدهم بشكل قسري. وهم يقاتلون تحت قيادة ايران مثل مليشيا منفصلة. وفي ايران كما هي الحال في الولايات المتحدة وإسرائيل فان الرأي العام لم يرغب في رؤية المقاتلين وهم يعودون إلى البيت في التوابيت. فخلال سنة قتل 400 – 500 ايراني في الحرب السورية، وتم طرح الاسئلة. وفرقة الاجانب من الباكستانيين والافغانيين هي مسألة مختلفة: يمكن التضحية بهؤلاء المقاتلين.
إن إيران تقوم بإرسال هؤلاء المقاتلين إلى الجبهات الصعبة. ويمكن أن نجدهم في يوم ما على الحدود الإسرائيلية.
ضربة قاضية
لقد وصلت روسيا إلى سورية من اجل البناء ومن أجل أن يُبنوا هناك. السبب الاول هو عسكري: لقد قاموا باستئجار الميناء في طرطوس لعشرات السنين، وكذلك المطار العسكري في غرب سورية سيستمر في تقديم الخدمات لهم. والسبب الثاني هو اقتصادي: هم يريدون الحصول على المليارات التي ستتدفق من العالم من اجل اعادة اعمار سورية. والسبب الثالث هو سياسي: هم يريدون الخروج من الحرب كلاعبين متساوين للأميركان اذا لم يكن أكثر من ذلك، في الساحة الاقليمية.
خطط إيران مشابهة: موقع عسكري بعيد المدى، نصيب كبير في اعمال الاعمار وتأثير سياسي اقليمي. روسيا تسعى إلى توقيع اتفاق برعايتها لانهاء الحرب. وبالنسبة لها هذا هو الانتصار الكامل. والأسد يريد الاستمرار في الحرب حتى النهاية واعادة توحيد سورية تحت حكمه. وهو يسيطر الآن على حوالي 70 في المئة من السكان، بينما هو يريد السيطرة على 100 في المئة. ليس واضحا ما الذي سيحدث في الاشهر القادمة في مثلث روسيا – سورية – ايران، ومن سيخون من ومتى ولماذا.
عندما ينتهي الأسد من احتفاله بالانتصار سيضطر إلى اتخاذ قرار مع حلفائه في ايران وروسيا حول توجهه. هل سيقوم بقصف المتمردين في ادلب، المعقل الاكبر لهم. هل سيوجه قواته إلى الرقة، عاصمة داعش. هل سيفضل مواجهة داعش في محور تدمر – دير الزور أو في درعا في جنوب سورية، حيث أنها النقطة التي قد تنتشر منها الحرب السورية إلى هضبة الجولان. المعركة حول درعا الآن في آخر الصفحة.
لقد وضع إيهود باراك مصطلح "فيلا في الغابة". ونتنياهو تبناه ووضع حوله الجدار: فيلا محصنة في غابة مهدِّدة. هذا تشبيه متكدر: ما الذي حدث في الفيلا إلى درجة جعلت الحصار أبديا، نبتة غريبة في الغابة قامت علينا من اجل تدميرنا. والحقيقة هي أن إسرائيل تعيش في واقع أكثر تفاؤلا وأكثر أمنا مما يبدو في هذا الوصف. ليس كل العالم ضدنا: لا حاجة لأن نترحم على أنفسنا.
في هذا التشبيه، رغم ذلك، ما هو صحيح. فالتراجيديا السورية تعلمنا كيف نصبح أقوى وأقوى، وأن لا نعتمد على سخاء الآخرين، لكنها تعلمنا أيضا درسا في السياسة الداخلية – إلى أي حد يبلغ خطر الاصولية القبلية، ديكتاتورية الاغلبية، التطرف السياسي وتأجيج الكراهية ضد الأقليات. إسرائيل لا يمكنها انقاذ سورية من مصيرها، لكنها تستطيع إنقاذ نفسها.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.