فن وترفيه

بين ريتا محمود درويش ومايا نزار قباني

لطالما كانت الأنوثة مصدر وحي الأديب ..منها يبدأ مشوار قصيدته ويعرّج على تفاصيلها .. يحاول رسم الصورة .. تلك التي تتجسد من خلال الشؤون الصغيرة والحيثيات البسيطة التي تدوّن أنوثة الأنثى ..

ريتا محمود درويش : من ” شتاء ريتا الطويل ” .

مايا نزار قباني : من ” الركبة الملساء ” .
يبدأ درويش بتصوير الجو المحيط بريتا ..
يبدأ برسم معالم المكان ، ويصنف أنواع الشؤون التي رافقت أمسيته
فيقول :

ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ
وهذه الأزهار أكبر من سريري
فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل
ضع ههُنا قمراً على الكرسيَّ
ضع فوق البحيرةَ
حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى
( …….. )
ريتا تحتسي شاي الصباح
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ
( …….. )

 

كما يرسم نزار الاشياء حول مايا .. وحيالها …
ويصور المكان وما يحتويه المكان ..
فيقول :

مايا على الموكيت حافية
وتطلب أن أساعدها على ربط الضفيرة
( ……. )
مايا وراء ستارة الحمام واقفة
كسنبلة وترويلي النوادر والحكايا
( ……. )
مايا تغني من مكان ما
ولا أدري على التحديد أين مكان مايا
كانت وراء ستارة الحمام واقفة
وحولها النبيذ إلى شظايا
مايا تغني من مكان ما
ولا أدري على التحديد أين مكان مايا
كانت وراء ستارة الحمام ساطعة كلؤلؤة
وحولها النبيذ إلى شظايا

نقرأ في وصف الشؤون الصغيرة بين الشاعرين نزار ومحمود فرقاً في الماهيّة ..
حيث أن درويش يعطي المكانَ والحيثيات بُعداً فلسفياً
ربما يفيد في تحويل جسم القصيدة لاحقاً من جسد أنثى .. لجسد منفى
أما نزار فيلجأ إلى المباشرة في الوصف .. ينقل مشهداً تصويرياً كما يراه
فغاية القصيدة هي الأنثى بعينها ..

نأتي إلى أسئلة الأنثى للشاعر والحواريات …
تبدأ كل أنثى بفرضِ جوٍّ من الأسئلة على الشاعر وتفتح معه الحديث
وينقل الشاعر من خلال هذا الحوار فكرته حول تلك الأنثى
ويبدأ بتصوير نفسيتها وحقيقة ارتباطها بمفهوم ” الأنثوية ” .
كيف تتعاطى كل واحدة منهنّ مع طبيعتها .. وكيف ترى نفسها
وكيف ترى المشهد من منظورها ..
كيف تعبّر ..
يقول درويش على لسان ريتا :

هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ
لتجهش كلما التفّت على جذعي فُروعُكَ ؟
حُكَّ لي قدمي وحُكَّ دَمي لنعرف ما
تخلفه العواصفُ والسُّيولُ
منِّي ومنك …
( …… )
ريتا تحتسي شاي الصباح
وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ
وتقول لي :
لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول
والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنتَ أنتْ ؟
( …… )
تدور ريتا حول ريتا وحدها :
لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى
في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول
عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل
لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول
وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة
تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟
خذني إلى أرض البعيدة

 

كما يعمد نزار لتجسيد غاية مايا ومحتواها النفسي
من خلال حديثها :

مايا تقول
بأنها لم تبلغ العشرين بعد
وأنها ما قاربت أحداً سوايا
وأنا أصدق كل ما قال النبيذ وكل ما قالته مايا
( ……… )
مايا تكرر أنها ما لامست أحداًَ سوايا
وأنا اصدق كل ما قال النبيذ
ونصف ما قالته مايا

أيضاً هنا ..
يرسم درويش عن لسان ريتا منفاه .. ويرسم حدود غربته روحاً في جسده
نرى تساؤلات ريتا تنطلق بمفهوم شبه موحد تحت بند : أأنتَ لي ؟؟
ويحاول درويش الهرب من السؤال في كل مرة مُظهراً حقيقة أنه يعيش منفاه ..
بينما تظهر مباشرة نزار مرة أخرى على لسان مايا
تلك التي ترسم شخصيتها حسبما تريد ، ويرسمها هو حسبما يرى ..

ويأتي دور وصف الأنثى .. جسداً وروحاً ..
هذا ما يكلل المشهد ويعطي البُعد الأخير للشخصيتين ..
كيف يرى الشاعر فتاته المُخاطبة ، محور القصيدة .
يقول درويش :

تنامُ ريتا في حديقةِ جسمها
توتُ السياجِ على أظافرها يُضيءُ
الملحَ في جسدي . أُ حبُّكِ .
نام عصفوران تحت يديَّ…
نامت موجةُ القمح النبيل على تنفسها البطيء
و وردةُ حمراء نامت في الممر
ونام ليلُ لا يطول
والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا
يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري
فنامي بيني وبينك
لا تغطي عَتمَة الذهب العميقة بيننا
نامي يداً حول الصدى
ويداً تبعثرُ عزلة الغابات
نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون
نامي فرساً على رايات ليلة عرسها …
هدأ الصهيلُ
هدأت خلايا النحل في دمنا
فهل كانت هنا ريتا
وهل كنا معا ؟
( ……… )

أما نزار فيقول :

الركبة الملساء
والشفة الغليظة
والسراويل الطويلة والقصيرة
إني تعبت من التفاصيل الصغيرة
ومن الخطوط المستقيمة
والخطوط المستديرة
وتعبت من هذا النفير العسكري إلى مطارحة الغرام
النهد مثل القائد العربي
يأمرني تقدم للأمام
الأحمر العنبي فوق أصابع القدمين يصرخ بي
تقدم للأمام
(……)
هذي شواطئ حضرموت
وبعدها تأتي طريق الهند
إن مراكبي داخت
وبين الطحلب البحري والمرجان
تنفتح احتمالات كثيرة
ماذا اعتراني
إن إفريقيا على مرمى يدي
وشواطئ البنغال أخطر من خطيرة
مايا تناديني
فتنفجر المعادن والفواكه والتوابل والبهار
( …….. )

يصف درويش جسد ريتا وماهيته بعيداً عن التصوير
يصف علاقة الأشياء بجسدها ويفتح باباً لفلسفة تقود القارئ
لمعرفة قصدِ الوصف المبطّن الذي مارسه في القصيدة ..
أما نزار فنجد في قصيدته وصفاً كثيراً مباشراً
اقتبستُ بعضاً منه لكثرته .. وركّزتُ على ذلك المشهد
الذي يخيل للقارئ أنه يتحدث فيه عن جغرافيا مكان لا عن جسد أنثى ..

الغاية : تناول نزار الأنثى كمادة جمالية .. وتناولها درويش كصورة لمنفاه

أما ختام القصيدتين فجاء :
عند درويش :

أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء
وكسرت خزف النهار على حديد النافذة
وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة
ورمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل
ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل

وعند نزار :

مايا تقول
بأنها امرأتي ومالكتي ومملكتي
وتحلف أنها ما ضاجعت أحداً سوايا
وأنا اصدق كل ما قال النبيذ
وربع ما قالته مايا

بين ريتا ومايا نرى صورتين متناقضتين لأنثى ..
في الأولى نرى أنثى بلون الغُربة والمنفى .
في الثانية نرى أنثى بلون الغريزة والشهوة والجمال .
الأنثى أنثى على كل حال ..
تكمن عظمة الأدباء بأنهم يميّزون ما يريدون من الشيء المطلق كـ “الأنثى ..”
ويوصلون آراءهم حوله .. شعراً ونثراً ..
تحية لريتا .. ومايا ..
وللعظيمين درويش ونزار .

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.