قبل مئة عام، أصدر الفلسطيني اللبناني المولد نجيب نصار جريدته الكرمل، مدشناً ولادة الصحافة الفلسطينية، التي ازدهرت قبل وعد بلفور عام 1917 وسقطت بعد ذلك، شيئاً فشيئاً في الفوضى والولاءات الصغيرة.

حكاية جريدة الكرمل الفلسطينية
 

بقلم: فيصل دراج
 


قبل مئة عام، أصدر الفلسطيني اللبناني المولد نجيب نصار جريدته الكرمل، مدشناً ولادة الصحافة الفلسطينية، التي ازدهرت قبل وعد بلفور عام 1917  وسقطت بعد ذلك، شيئاً فشيئاً  في الفوضى والولاءات الصغيرة. 
 
 لأهمية هذه الجريدة ثلاثة أسباب: فهي الأولى في تاريخ فلسطين، هي التي امتلكت مطبعة باسمها في بلد لم يكن يعرف المطابع  وهي الصوت الأول الذي حذّر بوضوح مستمر غير مسبوق من جديّة ومخاطر المشروع الصهيوني.
 
من هو نجيب نصّار؟
 
 توفي في ضاحية من ضواحي حيفا عام 1948، ولد في قرية من قرى لبنان ولم تشر «الموسوعة الفلسطينية» إلى تاريخ ميلاده. دعاه بعض مجايليه «شيخ الصحافة الفلسطينية»، ودعاه بعض آخر «أب فلسطين». لم يسعف اللقبان كثيراً الصحافي الفلسطيني ـ اللبناني، فقد مشى في جنازته «خلق قليل» كما جاء في الكتب، وسقطت عليه كآبة شديدة، وقد جاوز الستين، لأن «أبناء شعبه لا يقدّرون ماكان يفعله في محاربة الاستيطان اليهودي لسنين طويلة»، وهو ما قال به مؤرخ يهودي عرف نصار وتقصّى أخباره.
إذا كان مشروع جريدة الكرمل  التي عاشت ثلاثة عقود تقريباً، قد جاء في مكانه وزمنه الصحيحين، فإن صاحبها لم يعش في زمنه الصحيح. فلم يكن لمثقف حداثي مستقل، مارس المحاماة والصحافة والسياسة و الترجمة، مكان واسع في مجتمع تقليدي تنخره، إلى جانب أمراض أخرى، النزوعات الطائفية. لهذا بدا نجيب نصار  وهو يحذّر من الصهيونية ومن سماسرة الأراضي، طائراً بلا جناحين، كلما رفعته إرادته الفولاذية إلى الأعلى شدّه «مجتمع المتزعّمين» إلى الأسفل. 
 
لعل سعيه الطويل إلى نشر وعي عقلاني بالصهيونية في مجتمع فلاحي يؤمن بـ «الزعماء» هو الذي أعطى حياته شكل الملحمة: عني بالزراعة ودعا إلى زراعة حديثة. ترجم مبكراً ـ 1911 ـ كتاباً دعاه «الصهيونية: تاريخها، غرضها، أهميتها»، جاء فيه أن الصهيونية تسعى إلى «السيطرة على بلادنا ومصادرة حياتنا»، طالب بقيادة «صلبة ومخططات جريئة»، اعتبر التصدي للصهيونية واجباً عربياً  طالب به في مقالة نشرها في السابع من شهر حزيران 1911. كان يقرأ الإنكليزية والألمانية والفارسية، قام برحلة في فلسطين وشرقي الأردن ليتعرّف إلى أمراض مجتمعه وعلى هؤلاء الذين يجمّلون «البيوع»، طاردته السلطات العثمانية وسجل ما جرى له في «رواية مفلح الغساني»، التي هي سيرة ذاتية مقنعة، قرأ من أجل كتابتها «مكتبة كاملة بلغة أمة شكسبير»، كما قال. 
 
 أن ما أشهره لدى العقلاء تمثل في جريدته، التي كان يكتبها ويطبعها ويصحّحها ويوزّعها وحيداً، تؤازره زوجة متفانية فاضلة تصغره بعقود كثيرة. جاء في كتاب «تاريخ حيفا» لجميل البحيري الصادرة عام 1922 ـ ونقلاً عن حنا أبو حنا ـ ما يلي: «الكرمل جريدة عربية تصدر مرتين في الأسبوع، واشتراكها في فلسطين 125 قرشاً مصرياً. أنشئت عام 1909،… ، مباحثها تدور حول الوحدة العربية وكتاباتها بهذا الشأن شهيرة. وقد عالجت القضية الفلسطينية معالجة أكسبت صاحبها اسم أب فلسطين …». بعد سنوات قليلة من هذا الثناء ـ وفي عام 1928ـ التقى نصار، صدفة، بالمؤرخ اليهودي في أحد شوارع حيفا، وشكا له بحزن كبير جحود شعبه واستخفافه به.
 
أدرك نصار، القصير القامة السريع الحركة الذي يضع طربوشاً مائلاً إلى الأمام على طريقة أهل بيروت، أن الخطر المحدق بفلسطين يأتي من إدارة استعمارية إنكليزية وعقل صهيوني فاعل وشديد الانضباط، يأتي من وعي اجتماعي فلسطيني فقير يزيده المتزعّمون الفلسطينيون فقراً، لأنهم يقولون ما لا يعلمون ويقولون غير ما يفعلون ويوزعون القول والفعل وفقاً لاتجاهات الرياح ولا يكثرون إلا بالغنيمة. هذا ما كان يدفعه إلى لغة تحريضية عالية يخالطها الصراخ  وإلى عناوين تستنهض أرواح الذين يحسنون القراءة: «اقرأوها كلكم، استبدلوا، إلى الأمام أم إلى الوراء؟ كيف يُتّقى الخطر، المؤسفات، البيوع الكبيرة والكثيرة، الله أكبر أين غيرة الزعماء التي تظهر في تافه الأمور…». وعلى رغم رحلة مرهقة بين طيّات الغيوم فقد تكاثرت «المؤسفات»، وبقي المتزعّمون في صحبة «الغنيمة»، يغار كل واحد من نظيره، ويتركون الغيرة على فلسطين إلى يوم سقوط فلسطين، حين آثر الصحافي العجوز الرحيل والانصراف النهائي إلى الراحة.
 
ربما كان من المفيد، وهو مجرد احتمال على أية حال، أن يتوقف القارئ أمام بعض جمل نصار، الذي قضى حياته مع الحروف والحبر والورق والتعب واختيار العناوين التي «تستنهض الهمم». كتب في مقالته «تطويب الأراضي»: «غير أن العيب قد ظهر في الأهالي بسبب جهل قيمة الأرض وبسبب ضعف أخلاقهم الوطنية وبسبب الضائقة المالية»، ويكتب في مكان آخر: «يستهوي السماسرة البسطاء بتضليلهم وبقولهم لهم الأفضل لكم أن تبيعوا فالبلاد راحت والثمن اليوم أفضل من الثمن في الغد…»، «راج سوق بيع الأراضي …، وإن كانت البيوع في المنطقة الشمالية كبيرة فالباعة معظمهم من أهالي بيروت وزعماء لبنان الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، أما في هذه الجهة فمعظمهم من الوجهاء والعلماء وأبناء العائلات والزعماء وأعضاء المؤتمرات والجمعيات،…». ما الذي كان بإمكان الفلاح الفلسطيني المقاتل والفقير والأميّ أن يفعله في مواجهة السماسرة والزعماء والوجهاء والعلماء وأبناء العائلات…؟ وهل كان نجيب نصار، المثقف الوطني المقيّد بواجب اختاره واصطفاه، قادراً على مواجهة إحباط دفعه إليه الوجهاء والعلماء والزعماء معاً؟ كان نصار هو فلسطين العزلاء المقاومة الذاهبة إلى الغرق، وهو الفلاح الطيب الذي يحاصره الصهاينة والمتزعّمين، وهو المثقف اللبناني الفلسطيني العربي المغترب، الذي يذكر معركة «ذي قار»، ويقرأ مسرحيات شكسبير.
 
صدرت مأساة نصار عن مأساة فلسطين، التي شدّها «القدر» شداً إلى اختبار رهيب، وصدرت عن معرفته المقاتلة في مجتمع تكتسح الأمية تسعين في المئة من أفراده، آنذاك، كما جاء في كتاب المؤرخ الفلسطيني الراحل عبدالوهاب الكيالي. تجلّت المعرفة «غير المألوفة» في لغة جديدة، تحدث بها نصّار عن «عَتَلة المعرفة»، التي تنقل الأجسام الثقيلة بلا خطأ، و «فرودس المجتهدين»، أي الأرض التي أحسن استثمارها، و «علم المبادئ الوطنية» الذي يبدأ من العقل والاستعمال العقلاني للعقل و «الإنسان العمراني وصيانة المصلحة العمومية والسياسة الاقتصادية الوطنية وضرورة المقارنة وأهمية المهنة واحترام الوقت والإنسان المنتج….». وضعت اللغة الحديثة، الممزوجة بالقلق والغضب الشريف، في مقالاته كلمتين بارزتين: الإنسان المتزعّم، ذلك الزعيم الماسخ الذي زعامته من كذبه البليغ ومن بلاغته الكاذبة وجهل البسطاء، الذي يقايض ردّ المتظاهرين إلى «الحكمة والصمت» بلقاء مع مسؤول إنكليزي على فنجان من الشاي الإنكليزي، و «بلفورات فلسطين» أي «الزعماء الخونة» الذين «سينجزون وعد بلفور بأسرع مما توقع بلفور» .
 
نجيب نصار من هؤلاء المثقفين الفلسطينيين، الذين وحّدوا بين العروبة والدفاع عن فلسطين ـ طالب الصحفيين العرب عام 1911، بتشكيل جبهة ضد الصهيونية ـ وهو من هؤلاء المثقفين المسيحيين الفلسطينيين، الذين دافعوا عن الحضارة العربية ـ الإسلامية وأخلصوا لتعاليم «محمد والمسيح»، كما كان يقول المسيحي الآخر خليل السكاكيني، الذي حاول وابنه الوحيد «ملامسة النجوم»، والمؤرخ إميل توما وإميل حبيبي، الذي خلط السخرية بالبكاء ورأى في اللغة العربية هوية، وجبرا إبراهيم جبرا، الذي ساوى بين فلسطين والمسيح اعتبر الدفاع عن فلسطين دفاعاً عن السيد المسيح، وسميرة عزام التي هدّتها حزيران عام 1967 وتوفيت في الطريق بين بيروت وعمّان، وحالات أخرى جديرة بدراسة عادلة عن دور المسيحيين الفلسطينيين في صياغة الثقافة الوطنية الفلسطينية، وآخر وجوهها الكبيرة إدوارد سعيد، الذي أراد أن يكون «مثقفاً هاوياً» ينقض «المثقف الاحترافي» الذي تفتنه الحرفة ويزهد بالحقيقة.
 
قال نجيب نصار في لحظة حالمة «الأجيال تمجّد الجريء». ما فات نصار، وهو معذور في شروده الرومانسي، أن للأجيال صفات متغيّرة، وأن جريء قوم غير جريء لدى جماعة مستجدة، وأن «الإنسان العمراني» لا يوجد في كل الأزمنة. ولد «أب فلسطين» في عام 1865، وتوفي في يوم مطير وسار خلفه خلق قليل، ولم يلتقِ بالأجيال التي تمجد الجريء، لكنه وجد من يحفظ بعض صفحاته من الضياع، ويعرف تاريخ ميلاده وموته، مثل حنا أبو حنا ووليد خليف ، المقيمين في الناصرة. شكراً لهما. كان الروائي الألماني هنريش بول يقول: «يعمل المثقف من أجل حلم لن يراه». أنصف الزمن، بهذا المعنى، نجيب نصار، أو اقترب من أنصافه، وإنْ أجل إنصاف قضية شعبه إلى أجل غير مسمّى.

فيصل دراج  - اديب فلسطيني

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

0

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.